يعد الباحث العراقى خزعل الماجدي، واحدًا من أبرز المفكرين العرب، وهو مشغول بكيفية تشكل العقل الشرقي، لذا يبحث دائمًا فى أصوله، الأساطير والأديان والحضارات، فهو يتقصى جذوره الأسطورية وبنيته الدينية وتشكّلاته الحضارية التى عرفتها المنطقة، يبرزها ويحلل ما فيها من معلومات، ويخرج بنتائج صادمة فى أغلبها.
وقد أجرينا معه حوارًا موسعًا تناول الأزمات والإشكالات التى يواجهها العقل العربى حاليا، هل فَسُد؟ وهل يمكن إصلاحه؟ وما الأثر الدينى العميق فى أفكارنا وكيف نخرج من سيطرة الفكر السلفي؟
كيف ترى العقل العربى فى عالمنا الراهن؟
أرى العقل العربى، الآن، بأنه عقل "سلفى"، تمكن، خلال الفترة السابقة ومنذ العصور الوسطى، من تصفية كل ما كان يمكن أن يجعله حديثا، فلم يستجب لعناصر التحديث والاجتهاد والتجدد وبقى عقلاً سلفياً محافظاً ومتعصباً ومغلقاً. فقد انتصرت السلفية على علم الكلام والفلسفة والعلم والاجتهاد ونزعات التنوير وتجمّد كلّ شيء فى مكانه وانسدت طرقه وانغلق فضاؤه.
هذا العقل عندما بدأ عصر التماس الحديث الواسع مع الحضارة الأوروبية منذ غزا نابليون مصر، وعندما انهارت الدولة العثمانية وانتهت، ومع دخولنا فى تفاصيل العصر الحديث، لم يستجب لشروط العصر الحديث على الإطلاق، ولم نسع إلى تجديد هذا العقل، بل حاصر هذا العقلُ العلماءَ وجعلهم يهربون من دائرته إلى خارج مجاله، أما الذين بقوا فى دائرته فقد "دجّنهم" ولم يعطهم الفرصة لكى يقولوا ما يريدون وأجبرهم على الصمت تحت تُهم التكفير والإلحاد والزندقة، فلا فلاسفة ولا علوم حديثة ولا تحضر.
وليس هناك أى نشاطٍ فلسفى أو علمى فى هذا العقل، ولا توجد فلسفة خاصة قمنا بإنتاجها كما حدث فى العصر الوسيط أيام العباسيين والأندلسيين، ولم نساهم فى علوم العصر الحديث على الإطلاق، نحن الآن نعيش كمستهلكين نفعيين على منجزات علوم العصر نأخذ ما يحلو لنا ويساعدنا على الاستهلاك ونرفض الكثير من علوم وأفكار وفلسفات العصر ونراها مفسدة لنا.
هذا الحال وضعنا فى طريقٍ محرجٍ وصعبٍ .. كان يجب أن نتفاعل إيجابياً مع العقل الحديث والمعاصر بأكمله ونتعامل معه بشكل نقدى ورصين ومتوازن بحيث لا يعيق تقدمنا، فنحن نحتاج إلى جعل العقل العربى جديداً لا سلفياً، وكان يجب أن ننقده بقوة ونشير لإخفاقاته، ويجب أن نحضّره ليكون عقلاً كونياً، وليس عقلاً عربياً إسلامياً منغلقا على نفسه، وأن يكون قادراً على التعامل بنجاح مع معطيات التاريخ الحديث والمعاصر، نحن الآن على حافة انطفائه النهائي، فإذا لم نتدارك وهنه وعجزه وجموده سوف يموت عقلاً منفصلاً عن جذوره الأصلية قبل الإسلام، وعن الحضارات العظيمة التى أسستها المنطقة فى حدود العالم الإسلامي.
المشكلة الثانية هى أن عقلنا (الراهن) لم يمد جذوره مع الحضارات الأصلية لبلدانه، فأهمل الحضارات السومرية والمصرية والبابلية والآشورية والكنعانية والفينيقية واليمنية والأمازيغية واعتبرها عدوةً له .
ما الذى يفسد العقلية العربية.. من وجهة نظر خزعل الماجدى؟
ما يفسد العقل العربى هو التعصب والانغلاق والجهل، هذه الأمور الثلاثة عندما تجتمع لا تجعلنا نتعامل بطريقة جدية مع مستلزمات العصر الحديث، فنستلهم العصر الوسيط ونعتبره عصر المجد ونتمنى أن يعود، فنحن الأمة الوحيدة التى تتمنى أن يعود ماضيها، والحقيقة أن هذا الماضى، عندما نفحصه بشكل صحيح وعلمي، لم يكن ماضياً قوياً إلى هذا الحد، بل إن فئات المجتمع الإسلامى نفسها وتكوينات الحضارة الإسلامية كانت كلها متحاربة وكان هناك ما يقرب من سبع دول داخل تلك الحضارة متحاربة، وحصلت انشقاقات طائفية فيها، لم يستوعبها العقل العربى بحكمةٍ، بل جعلها فتيلاً للتفجير وظهرت حروب داخلية طاحنة، وفى ذلك الزمن كان الإنسان مقهوراً وكانت المرأة مهمشة وكانت الحياة بدائية وضعيفة، ولا يوجد سكن مناسب للناس، ولم تكن هناك صحة بالمعنى الفعلى، والعلماء كانوا مطاردين، فأى مجد كنا ننادى به فى العصر الوسيط فى منطقتنا؟
يتحدث العالم الإسلامى عن تجديد الخطاب الدينى.. ما الذى يراه الماجدى عن هذه الدعوة؟
لماذا نركز على جانب واحدٍ فى حياتنا اسمه الخطاب الدينى؟ ونحاول أن نجدده أو نعيد إنتاجه من جديد إلى آخره، والحضارة أشمل من الدين، فهى تضم ما يقرب من 15 مكونا أو عنصرا لها، والدين واحد منها، فهل يصح أن نهمل 14 مكونا ونركز على واحد فقط؟
فليكن الإصلاح الدينى جزءاً من الإصلاح الحضارى، حينها سيكون الأمر طبيعيا ومتساوياً مع بقية المكونات، وسيكون تنفيذه أسهل وأكثر دقة.
حدثنا أكثر عن الإصلاح الحضارى الذى تدعو إليه؟
الإصلاح الحضارى الذى أتحدث عنه يأتى من منطلق أن كلّ حضارة تتكون من 15 مكونا، سبعة منها مادية هى العناصر (الجغرافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والمادية / مصادر الطاقة والعلمية ) وسبعة منها ثقافية هى ( التاريخية والقانونية والثقافية /الفكرية والتربوية والنفسية والدينية والفنية ) وهناك ما يضبط التوازن بين هاتين المجموعتين من العناصر وهو الأخلاق، فضلاً عن التناسق والإيقاع العميق الذى يجب أن يربط جميع العناصر المادية والثقافية ببعضها.
العالم، اليوم، أصبح حضارة واحدة حية وقوية وتمثل حقبة التاريخين الحديث والمعاصر، ففى التاريخ الحديث كنا نسمى حضارته بـ (الحضارة الأوروبية)، ثم أسميناها الحضارة الغربية، لأن أمريكا وأستراليا ونيوزلندا وكندا دخلت فيها.
فى التاريخ المعاصر (أى منذ عام 1945) أصبحت هناك مجاميع جديدة مركزها الحضارة الغربية، لكنها قد لا تكون غربية مثل اليابان وكوريا والفلبين والبرازيل وغيرها، أما الحضارات الأخرى النازحة من الماضى القديم أو الوسيط مثل (الهندية والصينية والإسلامية) فقد تجمدت واصبح أهلها فى إطار الدول النامية، لذلك أقول ما يلى:
يمكننا القول إن كل شعب، فى الدول التى هى خارج دائرة الحضارة الغربية الآن، يمتلك جوانب حضارية يحاول أن يجمع بينها فتتحرك وتنجز له ما تنجز سعياً للانضمام لركب حضارة عالمية واحدة، اذن كل شعب قادر على أن يحرك بنشاطه هذه المنظومة لينتمى فيما بعد تلقائيا إلى الدول المتحضرة مع الاحتفاظ بخصوصيته . فعلى سبيل المثال اليابان وكوريا والبرازيل ضمن دائرة الدول الغربية لكنها تحتفظ بخصوصيتها الفنية والثقافية والدينية .. فلماذا لا نفعل نحن ذلك؟
الآثار والدين.. هذه الثنائية المؤرقة فى عالمنا.. هل يملك خزعل الماجدى حلاً للفصل بينهما؟
لا يمكن الفصل بينهما فى هذا العصر، لأن علم الآثار أصبح هو العلم الذى على أساسه يكون التاريخ علماً، وبالتالى عندما أتناول تاريخ الأديان أو تاريخ الحضارات أو تاريخ الأساطير فإن الآثار سوف تكون أساسية جداً فيما نحلله أو نقوله، لا يكمن الاعتماد فقط على المرويات كما هى بل يجب فحصها ونقدها، إن كل التاريخ سواء كان علماً أو ديناً أو سياسة أو كل عناصر الحضارة التى ذكرتها سابقاً يجب أن يعتمد على الآثار.
وعندما نبحث فى الأديان لا نسأل عن الله وعن الملائكة، لأن هذه الأمور جزء من الغيب، وهو أمر يبتعد عنه العلم ولا يبحث فيه أصلاً، لكن من حقنا أن نقارن بين التصورات المختلفة عن الله فى أديان الشعوب، أو اختلاف طبيعة وأشكال الملائكة فيها.
ومن ضمن أسئلة التوجه العلمى فى الأديان يأتى السؤال عن آثار الأنبياء والأولياء والقديسين ورجال الدين، لذا نسأل: من هم؟ ومتى وجدوا؟ وتسعى البحوث العلمية للسؤال عن آثارهم لكتابة سيرتهم الصحيحة ولكى نزيح عنها بعض الغبار والمبالغات التى شابتها سلباً وإيجاباً، كل هذا لابد يكون من خلال علم الآثار.
يرى بعض الباحثين أن خزعل الماجدى لا يعطى الحضارة المصرية حقها.. كيف ترد على ذلك؟
أصدرت حتى الآن ثلاثة كتب عن مصر القديمة، أولها (الدين المصرى صدر عام 1999) الذى بحث فى أربع مكونات فى الدين المصرى القديم، والثانى ( الحضارة المصرية صدر بطبعتين 2015 و2018) والثالث هو ( الديانة المصرية 2021) الذى يختلف عن ( الدين المصرى ) بسبب توسعه فى البحث عن ثمانية مكونات الدين المصري.
لاحظى أن مشروعى الفكرى يتضمن البحث فى حضارات وأديان ومثولوجيات العالم كله، وقد أنجزت فيها الكثير فأنا، لهذا السبب، لست متفرغا للحضارة المصرية، وأمامى مشاريع كبيرة فى هذه الحقول الثلاثة، أما إذ أتيحت لى فرصة متخصصة للبحث فى تفاصيل جديدة فى الحضارة المصرية فيلزمنى أن أكون فى مصر، ويلزمنى أن أزور المواقع والمتاحف الأثرية الجديدة، وأقيم لزمنٍ هناك؟
الحيوانات والنباتات مقدسة فى الحضارة المصرية القديمة.. هل يختلف المصريون فى ذلك عن بقية حضارات العالم القديم؟
ليست جميعها مقدسة، بل هناك أنواع محددة منها، كانت روحها ورموزها هى المقدسة ولم يكن الحيوان يعبد لذاته بل لأن الروح، التى هى جزء إلهى تسكنه، ولأن رموزه هى الوسيط بين الآلهة والبشر ،كان المبدأ العام يقول أن جميع الكائنات الإلهية والنباتية والحيوانية والبشرية خلقت سوية، من وجه نظر الميثولوجيا المصرية، ومع ذلك نجد فى الميثولوجيا المصرية ما يخالف هذا، والأساطير المصرية تقول إن الآلهة ظهرت فقط مع البشر سويةً، أحيانا تقول إن رع خلق البشر أجمعين وهو مسؤول عنهم، هذا التناقض يفسر أن الميثولوجيا المصرية تسلك سلوكين، سلوك عام عن خلق الكائنات العامة سويةً مع الآلهة وسلوك آخر أن العالم كان مادة هيولية تميزت لمكونات متميزة وبدأت تظهر مع الآلهة التى بدأت التفكير بخلق البشر والحيوانات والنباتات .
مصر بلد الحكماء وليس الأنبياء.. من وجهة نظرك هل ذلك يعد أمرا مميزًا أم العكس؟
نعم هذا ما أراه، وقد استقصيته بدقةٍ فى كتبى الثلاثة عن مصر القديمة، وهناك ما يقرب من 15 حكيماً مصرياً لهم نصوص معروفة، ووجدت أن هناك تماثيلاً ومنقوشات لاتزال موجودة لهم حتى الآن، والنصوص كانت تعبر عن مستوى رفيع جداً من الحكمة والأخلاق، وأعتقد أنه أمر مميز، والآثار هى التى أفصحت عن وجود الحكماء ونصوص حكمتهم فى مصر، وكذلك أفصحت عن وجودهم فى العالم القديم عند الصينين بالدرجة الأولى ثم عند الهنود.
يمكننى القول أن الحكماء أقل قداسة من الأنبياء، ولكن هذا ليس منقصةً فرغم أن تأثيرهم أقل مما أشيع عن الأنبياء، لكنه يبقى أطول بسبب واقعيتهم فى التناول وحكمتهم تفيد الحياة وتغيرها بشكل واضح وتحث عليها، فالحياة هى شغلهم الرئيسى أما الأنبياء فيشغلهم العالم الآخر والغيب، عادة، ولاشك أن كثرة وجود الحكماء فى مصر هى صفة ممتازة تمتاز بها مصر فى الشرق الأدنى بشكلٍ خاص، وأرى أن وجودهم مهّد لظهور الفلاسفة فى العالم اليونانى .فقد كان مصدر الفلسفة اليونانية الأول هو مدرسة الأسرار المصرية ثم برديات الحكماء المصريين الذين أمدّوا الفلسفة اليونانية بالكثير من الجوانب الإنسانية والأخلاقية.
أخلاق ملوك مصر "متوازنة السلوك والأخلاق".. هل كان ذلك جزءاً أساسيا فى استمرار الحضارة المصرية القديمة؟
نعم.. كان ذلك مهماً جداً، فوجود ملك مصرى، وهو بمثابة إله على الأرض، جعل تماسك هذه الحضارة أقوى وأكثر ثباتاً وهو ما يفسر لنا وحدة حضارة مصر وعدم ظهور التبدلات والتغيرات المفاجئة فيها . الفراعنة المصريون لم يدّعوا بأنهم آلهة، بهذه الصيغة المباشرة، لكن تقاليد الحكم فى ملكية الفرعون كانت تفرض عليه أن يكون بمثابة إله، فهو يرث الملكية الألوهية بشكل طبيعى كنظام وطريقة للحكم، وعندما يشعر الفرعون بأنه إله يخاف من ارتكابه لأى خطأ يُظهره مثل البشر، ولذلك يحرص على عدالته واستقامته. وعنما يتعلم الشعب أن من يحكهم إله خالد حتى لو انتقل إلى عالم الغيب فإن ذكره يستمر وأبناؤه وسلالته تستمر والقيم الأخلاقية التى ينادى بها تستمر، وكان هذا الأمر مهماً جداً للحفاظ على ناموس الحضارة وما يسمى بالأخلاق الحضارية وهذه صفة استثنائية فى الحضارة المصرية والدين المصرى لأن التوازن مطلوب ومهم فى هذا المجال.
ميزان الحضارة يضبطه عنصر الأخلاق، وأرى أن مصر جعلت الفرعون، باعتباره إلهاً، يمسك هذا الميزان ليضبط ويربط التوازن بين نظام الكون والآلهة من جهة والبلاد والبشر من جهةٍ أخرى، وكان ذلك حلاً عبقرياً لحفظ توازن وطاقة الحضارة وهو مايفسر تواصل الحضارة المصرية لثلاثة آلاف سنة بثلاثين أسرةٍ متواترة، رغم أن الجمع يعرف أن الفرعون سيموت وسيرثه من يأتى بعده، لكنها وسيلة للضبط.
كانت إلهة العدل والتوازن فى الكون، عند المصريين، اسمها "ماعت"، وهى حالة فريدة فى الأديان القديمة تميزت بها مصر وهذا الأمر ساعد على توازن واستمرار الحضارة المصرية وبقيت الأخلاق الحضارية محفوظة ومصانة إلى حدٍّ كبير، رغم وجود ما عكرها من احتلالات هكسوسية وآشورية وفارسية، اختل فيها التوازن بسبب الاحتلال الأجنبى، وهذا أمر طبيعى، وهكذا نقول إن أخلاق الحضارة عند المصريين كانت مضبوطة ومحفوظة بسبب عاملين هما عدالة الملوك ووجود ماعت.
الآثار والأنبياء.. فى ظنك لماذا لم يهتم الأنبياء بتسجيل قصصهم على آثار البلدان التى عاشوا بها؟
الدراسات تضع ثلاثة احتمالات:
الاحتمال الأول أن الأنبياء لم يتركوا خلفهم آثار نستدل بها إليهم، والاحتمال الثانى أن الآثار موجودة ولكننا لم نكشفها حتى الآن، الاحتمال الثالث وهو الاحتمال الوارد، بأنهم موجودون ولكن بصفات وأسماء أخرى.
وبالمناسبة لابد من مراجعة صفة النبوة التى هى صفة عبرية يهودية بالدرجة الأساسية، فهى تُطلق على رجل دينٍ يبشّر ويتنبأ بأحداث ورؤى . فهى درجة من درجات رجال الدين، ويحاول العبريون احتكار هذه الصفة وجعلها مرتبطة بهم ليقولوا بأن الأنبياء هم يهود فقط، وأن الإله، الذى هو ( يهوا) وهو الههم القوى، هو الذى يتصل بهم دون بقية البشر من خلال هؤلاء الأنبياء، ولهذا السبب هم أنكروا نبوة عيسى ومحمد لأنهم خارج اليهود.