عمت الدهشة أرجاء القاهرة من خبر استيلاء نابليون بونابرت على يافا، واحتفل الفرنسيون الذين جاءوا لاحتلال مصر والشام عام 1798 برفع الرايات العثمانية التى غنمها نابليون فى يافا على باب الجامع الأزهر، ليراها الناس ويتيقنون صحة الخبر.. يذكر «الجبرتى» فى موسوعته التاريخية «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار»: «فلما تحقق الناس صحة هذا الخبر تعجبوا وكانوا يظنون بل يتيقنون استحالة ذلك خصوصًا فى المدة القليلة، ولكن المقضى كائن»، ويقول عبدالرحمن الرافعى فى الجزء الثانى من موسوعته «تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر»: «احتفل الفرنسيون برفع الرايات العثمانية التى غنمها نابليون فى يافا على باب الجامع الأزهر ليراها الناس ويتيقنوا صحة الخبر».
أدى استيلاء نابليون على يافا إلى سيارة السكينة وقتا ما فى أنحاء مصر، وفقا للرافعى، مضيفا: «هذا السكون الذى شمل البلاد كان وقتيا، فما لبث أن تزعزعت أركانه فى الأقاليم، وأخذت بوادر التمرد والانتفاض تظهر من حين إلى آخر وتنتقل من ناحية إلى أخرى، فالنفوس كانت متحفزة للثورة، وكانت القوة الحربية هى الركن الركين لتوطيد دعائم السكينة فى البلاد، فابتعاد أكثر من نصف الجيش الفرنسى عن مصر وتغييب نابليون الذى كان له من الهيبة ما لم يكن لغيره من قادة الجيش الفرنسى، كل ذلك من شأنه أن يحدث مع الزمن تغييرا فى حالة الشعب النفسية، ويغرى النفوس بالجنوح للثورة، خاصة إذا وقعت حوادث تشعل نار الهياج والاضطراب».
يؤكد «الرافعى»: «بدأ هتاف ثورة يطيف بالنفوس فى أواخر فبراير 1799، وظهرت بوادرها فى الشرقية، وكانت مظالم الفرنسيين سببا فى اشتعال جذوتها، ذلك أنهم أخذوا يفرضون الإتاوات على البلاد، وأخذ جنودهم يخوضون القرى لمصادرة الجمال والحمير والماشية، فثارت نفوس الأهالى، ووقعت حوادث ومصادمات فى جهات عدة، خاصة فى بردين والعصلوجى والغار والزنكلون، كادت تفضى إلى ثورة عارمة».
كانت مدينة بلبيس هى عاصمة «الشرقية» وقتئذ، ووفقا للرافعى: «خرجت منها كتيبة من الجنود الفرنسيين فى 28 فبراير، مثل هذا اليوم، 1799، تطوف القرى لمصادرة الجمال والحمير، فلما نزلت تجاه بردين حمل الأهالى السلاح استعدادًا لمقاومة النهب، وانضم سكان البلاد المجاورة إليهم فاجتمع مئات من الناس متحفزين للقتال»..يضيف الرافعى، أن قائد الكتيبة الفرنسية حين شاهد هذه الجموع الثائرة أيقن أنه من المخاطرة اقتحامهم، وأراد أن يفاوض «شيخ البلد» بالحسنى، لكن الأهالى رفضوا أى مفاوضات فعادت الكتيبة من حيث أتت، وأبلغ الضابط الذى يقودها قومندان المديرية بما وقع له، فعزز الكتيبة بقوة أخرى من الجنود، ورجعت إلى بردين فى اليوم التالى «أول مارس 1799».
وجد الضابط الفرنسى قائد الكتيبة الأهالى مستعدين للقتال كما تركهم، فدعا من جديد شيخ البلد للتفاهم، لكن شيخ البلد تخلف ولم يذعن.. يذكر الرافعى: «ذهب أربعة من الجنود إلى باب القرية، ولم يكادوا يقتربون منها حتى انهال عليهم الرصاص، وعندئذ بدأ القتال من الجانبين، وأقبلت جموع الفلاحين المسلحين تقتحم رصاص الفرنسيين، واستمر الضرب والقتال مدة ساعتين، وانتهت الواقعة بهزيمة الفرنسيين فولوا الأدبار، وتعقبهم الأهالى حتى ردوهم إلى بلبيس، وقتل من الفرنسيين فى هذه الواقعة خمسة وجرح اثنان فذاع فى بلاد «الشرقية» خبر الهزيمة، وانسابت روح الثورة إلى القرى البعيدة والقريبة، واعتزم الثائرون الزحف على بلبيس للاستيلاء عليها».
جاءت الأنباء إلى قيادة «الحملة الفرنسية» فى القاهرة، فصممت على الانتقام من هذه القرى الثائرة خاصة «بردين» و«الزنكلون»، لمنع اندلاع الثورة إلى البلاد الأخرى.. يذكر «الرافعى أن الجنرال «دوجا» فى القاهرة عهد إلى الكولونيل «دايرنتو» بمهمة تأديب هذه القرى، فانتقل «دايرنتو» إلى بردين يوم 16 مارس، ومعه الجند والأسلحة والمدافع، فدار القتال بين الفريقين، وانتهى باستيلاء الفرنسيين على «بردين» ونهبها وإضرام النار فيها، وسفك دماء عدد كبير من أهلها، وتوجهت القوة الفرنسية إلى «الزنكلون» لتفعل بها ما فعلته فى بردين، لكنها وجدت أهلها وقد أخلوها قبل حضورهم تفاديا من أن يحل بها مثل ما حل فى «بردين». يذكر الرافعى، أن واقعة «بردين» كانت لها من الشأن ما جعل الجنرال «برتييه» رئيس أركان حرب الحملة الفرنسية يذكرها فى كتابه «حروب الجنرال بونابرت فى مصر وسوريا» ضمن الحوادث المهمة التى وقعت فى مصر أثناء الحملة على سوريا، فقال: «ثارت قرية «بردين» بمديرية الشرقية فسار إليها الكولونيل ديرنتوا وهو ضابط كفء، على رأس كتيبة من الجنود فأخمد ثورتها وأضرم النار فيها».