بدأت المناوشات بين تركيا واليونان منذ أوائل مارس 1897، بسبب النزاع على جزيرة «كريت» ذات الغالبية اليونانية التى جددت اضطراباتها للمطالبة بالانضمام إلى اليونان، فاحتلتها اليونان، ما دفع الحكومة العثمانية لإعلان الحرب عليها، وهى الحرب المعروفة تاريخيا باسم «حرب الثلاثين يوما»، وكان لمصر حضورها الخاص فيها، حسبما يذكر أحمد شفيق باشا فى مذكراته، وكان «شفيق» رئيسا لديوان الخديو عباس الثانى التى وقعت هذه الحرب فى عهده.
كانت مصر تحت سلطتين وقتئذ، الدولة العثمانية ولها مندوب سام هو الغازى أحمد مختار باشا، والاحتلال الإنجليزى منذ 1882 وله مندوب سام أو «معتمد» وهو اللورد كرومر، يذكر الخديو عباس الثانى فى مذكراته «عهدى»، أن المندوب السامى العثمانى كان عليه أن يقضى على كل اتجاه لاستقلال مصر، وأن يمنع الخديو بكل الوسائل من زيادة امتيازاته وحقوقه، وكان عليه أن يرعى أمر المحافظة على الكرامة الدينية للخليفة وسلطته على مجموع البلاد»، فى هذا السياق جاء الحضور المصرى شعبيا ورسميا إلى جانب تركيا فى «حرب الثلاثين يوما»، يذكر شفيق باشا: «فكر كثير من أكابر المصريين فى جمع إعانة مالية بواسطة الاكتتاب، وإرسالها للدولة مدفوعين بعاطفتهم نحوها»، يضيف: «فى 11 مارس - مثل هذا اليوم -1897 قدم إلى السراى وفد يمثل اللجان الفرعية التى تكونت لهذا الغرض، وأعضاؤه «قره جوللى» بك الرئيس، ومحرم بك حقى أبوجبل، وعثمان بك عبدالحميد، وقابلوا الخديو «عباس حلمى الثانى»، وعرضوا عليه التماسا بأن تكون أعمال الاكتتاب تحت رعايته، فقبل سموه ذلك».
كان لانضمام الخديو للحملة تأثيره الكبير، ووفقا لـ«شفيق»: «لما قبل سموه رعاية هذا الاكتتاب، ازداد المشتركون فيه، حتى جمعت مبالغ كبيرة فى مدة وجيزة»، يؤكد «شفيق»، أن حركة التبرعات زادت بانضمام مصطفى رياض باشا رئيس الوزراء إليها، يذكر: «أسس مصطفى رياض باشا لجنة برئاسته وعضوية ثابت باشا وحيدر باشا وعمر لطفى باشا وعثمان ماهر باشا ومحمد راتب باشا وإدريس راغب بك، وبليغ باشا، وإبراهيم هلباوى بك، وإسماعيل باشا محمد، وإسماعيل صفوت باشا، وخليل عفت باشا، وعلى آصف باشا، ويعقوب صبرى بك، وأحمد السيوفى باشا، وحسن مدكور بك».
يتتبع شفيق باشا حركة التأييد لتركيا مشيرا إلى فاعلياتها بين «الأكابر»، وبين عامة الشعب من الشباب والفقراء وغيرهم.. يذكر: «فى 16 مارس 1897 وفد على السراى رياض باشا يصحبه الشيخ حسونة النواوى شيخ الأزهر، وبعض أعضاء اللجنة المذكورة والتبرعات التى جمعت، ورجوه أن يشمل هذا المشروع بالتفاته السامي، فشكر لهم سموه عواطفهم، ثم انصرفوا على أن يقابلوا البرنسيسات ويطلبوا معونتهم فى مهمتهم، وفى اليوم التالى أرسلت «الخاصة الخديوية» ألفين وخمسمائة جنيه للإعانة العسكرية التركية، وتبرع أفراد الأسرة الخديوية بمبالغ كبيرة، وحذت حذوهم سائر رجال المعية، وتألفت لجان أخرى من الشباب وكريمات السيدات اللواتى رجون حرم رياض باشا قبول رئاسة لجنتهن فقبلتها، وأخذت فى جمع الاكتتابات»، يضيف «شفيق»: «فكرت اللجنة العامة فى أن الكثيرين من الفقراء قد يريدون التبرع فيمنعهم الحياء من دفع مبالغ صغيرة، فوضعت صناديق مقفلة فى المساجد وفى بعض المحال التجارية ليضع فيها من شاء ما تجود به نفسه تسهيلا لاشتراك الجميع».
يذكر شفيق:»فى 18 أبريل 1897، ورد على السراى من الباب العالى أن الحرب أعلنت رسميا بين تركيا واليونان، فزادت حركة التبرعات فى مصر، وبلغ ماجمع نحو خمسين ألف جنيه، وتقدم بعض ضباط الجيش المصرى المتقاعدين للغازى مختار باشا ملتمسين قبول تطوعهم فى الجيش العثماني، كما تطوع كثير من الشبان المصريين والأطباء فى الجيش».
ينقلنا «شفيق باشا» إلى مشهد آخر قائلا: «فى 20 إبريل وردت إشارة رسمية من الباب العالى بالتنبيه على الرعايا اليونانيين فى مصر بتصفية مصالحهم والرحيل من القطر المصرى، وإلا اعتبروا من الرعايا العثمانيين، وبعد المداولة بين الخديو ورجال المعية والنظار تقرر أن يخير الرعايا اليونانيون بين البقاء بصفتهم من الرعايا العثمانيين أوالاحتماء بعلم من أعلام الدول الأخرى كإنجلترا أو فرنسا أو روسيا مدة الحرب، ولما أبلغ هذا القرار إليهم اختاروا أن يستظلوا بالحمايات الأجنبية، وزار اللورد كرومر الخديو وأبلغه ما استقر عليه رأى الجالية اليونانية، وفى 22 إبريل أنشئت جمعية باسم الهلال الأحمر، أسسها البنك العثمانى لجمع اكتتابات تنشأ بها مستشفيات خصوصية تقوم بتمريض جرحى الجيش العثمانى، ولقيت الفكرة تعضيدا كبيرا من رجال المعية، وعرض مدير البنك على الخديو قبول هذا المشروع تحت رعايته فقبله بارتياح، وتولى الغازى مختار باشا الرئاسة الفعلية، كما قبلت الحكومة المصرية الاشتراك فيه بصفة رسمية».
فى 26 إبريل 1897، أبرق الصدر الأعظم إلى الخديو عباس يبشره بانتصار الجيش التركى، ووفقا «لشفيق»: «لما جاءت هذه البرقية شمل السرور جميع رجال المعية».