على مدار ثلاثة عقود لم تتوقف التحولات السياسية والاقتصادية فى العالم، وما يجرى اليوم بين روسيا وأوكرانيا، يتجاوزهما إلى أوروبا والولايات المتحدة، وكل لحظة هناك جديد فى سياقات السياسة والاقتصاد، وكل الشواهد تشير إلى أن الوضع قبل حرب روسيا وأوكرانيا غير الوضع بعدها، والعالم أمام تحولات كبرى على مستوى السياسة والاقتصاد، تتوسع وتتداخل وتتقاطع وتفرض تحديات سياسية واقتصادية، فضلا عن إعادة تشكيل نظام عالمى لا يزال يموج بالتغيرات على مدار عقود.
فى هذا التداخل فإن كل قرار أو حتى تصريح ينعكس فورا فى مؤشرات الاقتصاد والبورصات والأسعار، وفى ظل عولمة الاقتصاد وأدوات الاتصال والتواصل تتزايد مخاوف العالم، من تأثيرات زلزال وتوابعه، بدءا من أنظمة التحويل البنكى وحتى أسعار النفط والغاز والقمح وترتفع نسب التضخم والركود، بما يؤثر فى طعام وشراب المواطنين فى كل أركان العالم.
وكل من يتابع تحركات الدولة المصرية والرئيس عبدالفتاح السيسى، يعرف أن الدولة بمؤسساتها، لا تعمل من خلال رد الفعل، ولكنها تتحرك بناء على قراءة للملفات والسياقات السياسية والاقتصادية، وأنها على مدار سنوات نجحت فى التعامل مع أزمات طارئة، أو تحولات متوقعة. الدولة التى انتصرت على إرهاب فكك دولا، وتجاوزت تداعيات كورونا التى أربكت دولا كبرى، يمكنها أن تتعامل مع أزمة عالمية ذات انعكاسات على العالم كله.
ومن هنا يمكن قراءة التحركات المصرية، للتعامل مع هذا التحول العالمى، من خلال سياقات أهم أهدافها، الحفاظ على مصالح الدولة المصرية، ومواطنيها، وأيضا الحفاظ على المصالح العربية وتنسيق المواقف بأكبر قدر من الدقة، من خلال تحديد دقيق لخرائط التحرك وبناء العلاقات وتنسيق المواقف المشتركة، وعلى مدار أسابيع لم تتوقف تحركات الدولة المصرية على كل الأصعدة، عربيا كانت زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسى للمملكة العربية السعودية، وسبقتها زيارة للكويت والإمارات.
زيارة الرئيس للمملكة العربية السعودية جاءت فى توقيت دقيق جدا وسط تغيرات سياسية واقتصادية يشهدها العالم، وضمن بناء العلاقات العربية، مع اقتراب انعقاد القمة العربية التى تعقد فى الجزائر، مع تأكيدات مصر الدائمة على اعتبار أمن الخليج العربى مرتبطا بأمن مصر، خاصة أن مصر والسعودية حافظتا على استقرارهما وسط اضطراب المنطقة، ومارستا أدوارا للحفاظ على استقرار الأمن العربى، باعتبارهما من الدول الفاعلة والقادرة على بناء سياقات للتعامل مع ما يواجه المنطقة من تداعيات مباشرة، أو انعكاسات للسياسة العالمية.
هناك ضرورة لبناء علاقات عربية، تمثل فعلا، وليس مجرد رد فعل، خاصة أن الدول الكبرى سواء أثناء كورونا أو قبلها، مشغولة بمنافساتها ومصالحها، بشكل يجعلها غير قادرة على التداخل مع القضايا الإقليمية، فضلا عما تخلقه الأزمة من محاولات استقطاب، أو تنتجه التفاعلات القادمة، فى سياق أزمة لا يبدو أنها قد تنتهى بسرعة، مما يستدعى وجود مواقف عربية، يمكنها أن تتداخل لدفع المسارات السياسية، فى ليبيا، والسعى لمعالجة آثار عقد من الارتباك والصراع فى دول عربية.
ومن المهم عدم التصرف من منطقة «رد فعل»، وأن يكون لدى الدول العربية فعل حقيقى فى بناء الأمن القومى والمحافظة على استقرار الدول، فى ظل تهديدات وجودية تفرض نفسها، ولا تترك الفرصة لغير الدول القادرة على اتخاذ مواقف متماسكة ومستقلة، لصالح الشعوب العربية فى ظل تحولات تفرض تأثيرها على عالم لم يخرج بعد من تأثيرات جائحة كورونا على الاقتصاد وسلاسل التجارة والنقل.
صحيح أن التحولات السياسية والاقتصادية لم تتوقف على مدار عقود، لكن ما يشهده العالم اليوم، فى روسيا وأوكرانيا وأوروبا، هو الأكبر، خاصة مع ما يحمله من تداعيات محتملة، من هنا يتطلب الأمر أكبر قدر من التركيز والتوحد داخليا وعربيا، لتخطى صراع، هو الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، وهو ما تدركه الدولة المصرية، وهى تتعامل مع ملفات التحولات السياسية والاقتصادية، انطلاقا من معالجات أثبتت التجارب قدرتها على قراءة الأحداث.