ارتبط الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل والفريق الشهيد عبدالمنعم رياض، رئيس أركان حرب القوات المسلحة بصداقة، بدأت فى موسكو عام 1957، وتواصلت حتى استشهاد رياض بقذيفة إسرائيلية، أثناء وجوده بين جنود على خطوط الجبهة الأمامية بالإسماعيلية 1969.
كان الاثنان فى موسكو لغرضين مختلفين، كان «هيكل» يجهز لحوار مع الزعيم السوفيتى «خروشوف»، وكان «رياض» ضمن وفد عسكرى مصرى يبرم عقودا لصفقة سلاح، حسبما يذكر«هيكل» فى مقاله «فى تحية عبدالمنعم رياض.. الجنود القدامى لا يموتون»، الأهرام، 14 مارس، مثل هذا اليوم، 1969.
استمرت علاقتهما 12 عاما، تخللها حوارات كثيرة أتاحت لهيكل أن يكتب عنه من قرب، موضحا فكره العسكرى بعمقه الاستراتيجى الشامل، ودوره البناء مع الفريق أول محمد فوزى، وزير الحربية، فى إعادة بناء القوات المسلحة، وإعدادها للمعركة ضد إسرائيل، حيث اختارهما عبدالناصر بعد هزيمة 5 يونيو 1967 لهذه المهمة، وينقل هيكل قول فوزى له: «عبدالمنعم ليس له مثيل، لم يكن فى الاستطاعة أن يكون لى رفيق فيما كلفت به غيره».
يتوقف هيكل أمام سمات شخصية عديدة لرياض أهمها «تقديره للعلم فى أى معركة»، يذكر: «كان يعتبر أن العلم هو ميزة العدو علينا، باعتبار استعداده الإنسانى لاستيعابه، ثم باعتبار حاجته إليه لتعويض نقصه البشرى فى مواجهة فيض بشرى عربى»، ويضيف: «من المؤكد أن عبدالمنعم رياض ظل إلى آخر يوم فى حياته طالب علم، وذلك أعظم ما يمكن أن يكونه أى إنسان مهما علا قدره وارتفع مقامه، وربما ساعده على حسن تقديره لأهمية العلم فى المعركة، أنه كان بحكم عمله فى المدفعية المضادة للطائرات، على اتصال مباشر بتطورات علمية واسعة الأثر، فالمدفعية المضادة للطائرات أصبحت تعتمد على الصواريخ، والتعامل بالصواريخ فى حد ذاته مقدرة على الانطلاق إلى بعيد، كذلك فإن تعدد مصادر دراساته فى بريطانيا والاتحاد السوفيتى، واستعداده لأكثر من لغة، الإنجليزية والفرنسية والروسية كلها بطلاقة، إلى جانب العربية بالطبع، أتاح له فرصة رحبة غير مقيدة».
يستشهد هيكل بما رآه مرة فى موسكو: «كنت أزور كلية فورشيلوف العسكرية، وأصبح اسمها فيما بعد أكاديمية القيادة العلمية للقوات المسلحة السوفيتية، وقال لى دارس مصرى فيها: إن عبدالمنعم رياض، الذى درس هنا قبل سنوات، جعل مهمة الذين جاءوا بعده بالغة الصعوبة. إن الجنرال بايتشنكو، وهو من كبار المعلمين السوفيت هنا، وله تاريخه فى الحرب العالمية الثانية، لا يمل دائما من أن يكرر للدراسين العرب على هذا المقعد الرابع فى الدورة الأولى، التى اشترك فيها دارسون عرب، كان يجلس الجنرال رياض»، كما يكشف هيكل أنه اصطحب معه ياسر عرفات، رئيس حركة فتح وقتها، فى مكتبه، ويؤكد: «كانت متابعة النقاش بينهما متعة لا تقدر بالنسبة لى، كان حديثهما عن المقاومة، وعملها، ومشاكلها، وكان عبدالمنعم رياض، وهو الجندى النظامى من الدرجة الأولى، خبيرا فى الحرب الشعبية ومن الدرجة الأولى أيضا، ولم يكن ذلك رأيى وإنما كان رأى عرفات».
كان آخر لقاءاتهما قبل شهر من استشهاده، يلخص هيكل ما قاله رياض: «كان هناك تحليل نفذ منه لأزمة الشرق الأوسط، على ضوء أوضاع الاستراتيجية العالمية، وهناك ثقة كاملة منه فى إمكانية الانتصار فى معركة على العدو، إذا أعطيت المعركة إمكانياتها المناسبة، ووقتها الكافى، وكان يقينه ليس بحتمية المعركة فحسب وإنما بضرورتها، وأذكر قوله بالحرف: لن نستطيع أن نحفظ شرف هذا البلد بغير معركة، عندما أقول شرف البلد، أعنى شرف كل فرد، شرف كل رجل وكل امرأة، كان شديد الوعى بأهمية قضية التنمية، واهتمامه بالقيادات الجديدة فى القوات المسلحة زائدا، وكان قوله: لا تصدق ما يقال من أن القادة يولدون، الذى يولد قائد هو فلتة من الفلتات لا يقاس عليها، كنابليون مثلا، القادة العسكريون يصنعون، يصنعهم العلم والتجربة والفرصة والثقة، وما نحتاج إليه هو بناء القادة.. صنعهم».
لم يتزوج عبدالمنعم رياض«مواليد 22 أكتوبر 1919»، وعاش فى شقة بمصر الجديدة مع أخته الأستاذ فى كلية العلوم، التى لم تتزوج هى الأخرى لرعايته، يذكر هيكل: «فى آخر حديثنا وجدنا أنفسنا بقرب من حياته الشخصية، كان فى مشروعاته ذات يوم قبل الحرب مشروع زواج لم يتم، قال لى: لم أعد أفكر فى هذا الأمر الآن، ولم يعد لدى وقت للتفكير فيه، أريد أن أعطى حياتى كلها للمعركة، بعد المعركة من يعرف كيف تسير الأمور، ربما عاودت التفكير مرة أخرى فى مشروع الزواج، أنت تغرينى بأحاديثك عن البيت السعيد والأولاد، ولكن الوقت متأخر بالنسبة لى فى مسألة الأولاد، عندما يجيء السلام سوف أبحث عن قطعة أرض صغيرة، وأبنى عليها بيتا صغيرا تحيطه الزهور، وسوف أقرأ كثيرا، وربما فكرت أن أكتب، وقد تكون هناك زوجة ترضى بالعيش مع عجوز مثلى، لا أتصور أن أفعل شيئا آخر غير ذلك، إننى أفهم الجنرال ماك أرثر الأمريكى عندما قال: الجنود القدامى لا يموتون.. ولكنهم يبتعدون فقط».