آية فى الجمال، وخير وبركة فى كل مكان، ابتسامة رضا ترتسم الوجوه وتغمر القلوب، وسواعد فتية تبنى وتعمر ولا تبالى، وأياد "شقيانة" ترضى بالمقسوم بإخلاص وتفان، بمدينة اعتاد أهلها على العمل والكفاح بحثا عن الرزق الحلال، بمجرد أن تزورها تسحر بأبنائها وهم يسعون وراء رزقهم ويعملون بكل إرادة وعزم فى محال وورش صغيرة تعود لمئات السنين يمتهنون أعمال أوشكت على الاندثار فى سبيل لقمة العيش.
فى مشهد يسوده الأصالة والرضا، بطله رجل ستينى يعمل بخفة ونشاط، يجلس فى رحاب محله الصغير مع ابنه بمدينة نبروه بمحافظة الدقهلية، ينثر بعصاه الخشبية القطن ليغزل بأنامله الساحرة المراتب القطنية بدقة وإتقان، هكذا اعتاد صاحب البهجة غازى عبد النبى على الكفاح والعمل فى تنجيد المراتب والوسائد منذ نعومة أظافره فى مهنة ورثها عن والده وعاش معها طفولته وذكرياته؛ بحثا عن الرزق الحلال والحفاظ على موروث تاريخى أصيل.
وقال غازى عبد النبى صاحب الـ65 عاما لـ"انفراد"، إنه عمل بمهنة تنجيد المراتب منذ أكثر من 45 عاما، فعشق المهنة وقرر تعلمها منذ أن كان فى 12 من عمره، مشيرا إلى أنه مكث لساعات طويلة يراقب والده وهو ينجد بيداه المراتب، حتى أحب المهنة وتعلم أصولها واكتسب خبرة كبيرة فيها ونجح فى إتقانها واحترافها فى الـ20 من عمره، وظل يعمل فيها لسنوات طويلة حتى سافر بعد ذلك للعراق التى امتهن فيها أكثر من مهنة تعينه على توفير حياة كريمة لأبنائه، حيث جمع بين مهنته الأساسية "التنجيد"، وبين عمله فى مطعم وأعمال البناء، وبعد عودته لمصر قرر أن يواصل ما بدأه فى مهنة التنجيد ويعلم أبناءه أصول المهنة بجانب دراستهم؛ ليحافظ على إرث والده ومهنته اليدوية الأصيلة التى تقاوم الاندثار بعد ارتفاع أسعار القطن وعزوف الكثيرون لشراء المراتب الجاهزة.
واستطرد أن مهنة التنجيد كانت ولا تزال مصدر بهجة وسعادة لكل قرية وبيت، ويوم عيد يسبق حفلات الزفاف، فكان قديما يفترش جزءا من الشارع أو يمكث لأيام فى منزل العروس ليمارس عمله فى تنجيد مراتب العرسان، وإعادة تنجيد المراتب التالفة وسط أغانى الأعراس والزغاريد التى تتعالى أصواتها مع بهجة الأطفال، أما اليوم فاختفت بهجة وفرحة زمان فيمارس عمله من محله الصغير برفقة ابنه "عبدالله"، موضحا أن بالرغم من تطور الحياة وظهور المراتب والمفروشات الجاهزة، إلا أن الكثيرين لا يزالون يعتمدون على المراتب والوسائد القطنية البلدى حتى يومنا هذا، خاصة فى القرى الريفية التى لا يزال بعض سكانها يحتفظ بالعادات والتقاليد القديمة.
وقال إنه يكون فى قمة بهجته وسعادته وهو فى محله الصغير الذى يزيد عمره عن مائة عام، ويمكنه من ممارسة المهنة التى طالما عشقها وأحبها بكل مراحلها من تهوية القطن وتنظيفه من الشوائب وزيادة كثافته باستخدام آلة تنظيف القطن، وتعبئته فى قماش المرتبة، وتنفيضه بجريدة النخل، وإمساكه للإبرة والخيط لغزل المراتب والوسائد، مشيرا إلى أن المراتب البلدى لا تزال تحتفظ برونقها ويقبل عليها عدد كبير من أبناء الريف، وأفضل من المراتب الجاهزة المصنوعة من الفايبر والإسفنج التى غطت الأسواق وأصبحت تهدد بقاء المراتب البلدى، بكثير كونها مصنعة من أجود أنواع القطن الطبيعى الخالى من الألياف، فضلا عن متانتها وبقائها لسنوات طويلة وتكلفتها البسيطة.
وأشار إلى أن تنجيد المراتب يدويا بشكلها التقليدى يعد مهنة شاقة، تعتمد على القوة الجسمانية والخبرة والحرفية العالية، حيث تستغرق المرتبة الواحدة منه أكثر من ساعتين بداية من تجهيز القطن و"تكييسه" فى مراتب ومخدات ولحف حتى انتهاءه من تجهيزها، كونها حرفة يدوية تحتاج لقوة عضلية كبيرة ودقة وتركيز شديد ومهارة عالية، مؤكدا على أنه يفتخر ويعتز بمهنته التى مكنته من تربية أبنائه الستة وتعليمهم بعزة وكرامة، ومواصلته الكفاح والعمل وسعيه فى الحياة بكل إرادة وعزم بعد تخطيه الستين من عمره.