أرسلت سلطة الاحتلال الإنجليزى العسكرية قواتها إلى بعض الجهات فى مصر لقمع الاضطرابات التى تواصلت منذ بدء ثورة الشعب المصرى يوم 9 مارس 1919 ضد الاحتلال، ونزل جنود إنجليز فى قريتى «العزيزية» و«البدرشين» بمحافظة الجيزة، «فأوقعوا فيها من الحوادث المؤلمة ما تنبو عن سماعها الآذان وتشمئز منها النفوس»، بوصف عبدالرحمن فهمى، قائد التنظيم السرى للثورة فى الجزء الأول من مذكراته «يوميات مصر السياسية-إرهاصات الثورة- 12 نوفمبر 1918- - 7 يونية 1919».
أقدمت سلطات الاحتلال على هذه الخطوة بعد أن تعددت حوادث تخريب السكك الحديدية وحرق المحطات، غير أن ممارسات جنود الاحتلال الوحشية ضد الأهالى يفضحها عمدة «العزيزية» إبراهيم دسوقى رشدان، فى شكوى رفعها إلى مجلس مديرية الجيزة والجمعية التشريعية، وكذلك فعل عمدة «البدرشين» محمد منظور الدالى، فى شكوى أخرى، ويأتى عبدالرحمن فهمى بنصهما فى مذكراته.
يذكر «عمدة العزيزية» أنه سمع طرق شديد على باب منزله ليلة الثلاثاء 25 مارس، مثل هذا اليوم، 1919 الساعة الرابعة بعد منتصف الليل، فاستيقظ مذعورا ليجد على سلم بيته نحو عشرة جنود إنجليز مسلحين بالبنادق يقودهم اثنان من ضباطهم يحملان المسدسات فى أيديهما، ويرافقهما أمباشى وعسكرى مصر ومترجم، وقال له المترجم: يأمرك الضابط بأن تقدم سلاحك حالا، ثم تجمع أسلحة البلد فى خمس عشرة دقيقة.. يضيف العمدة، أنه أحضر مسدسه للضابط، واندفع الجنود إلى حجرة النوم وكان بها زوجته وبناته الثلاث الصغيرات، واشتد بهم الخوف فاختفين تحت سرير النوم قبل أن يلمحهم الجند، وانهال الجنود وضباطهم على الصندوق والدولاب فكسروهما وأخذوا ماكان بهما من الحلى، ثم انتقلوا إلى الشقة الأخرى من المنزل وكانت بها زوجته الثانية وولداها، فحاولت أن تختبئ فأدركها أحد العسكر بضربة ألقتها صريعة تكاد تموت، ثم صعدوا للطابق الأعلى ووجدوا خزانة حديد سميكة أمروه بفتحها وأخذوا تسعمائة وخمسين جنيها ومصوغات كانت بها.
يؤكد عمدة العزيزية، أن الجنود الإنجليز اقتادوه ليرشدهم إلى باقى بيوت مشايخ البلدة، وصنعوا بهذه البيوت وبمنازل بعض الأهالى ما صنعوا بمنزله، ثم أمروا المترجم بأن يصيح فى الناس بأن الإنجليز سيجعلون البلدة كلها طعمة للنار، وأن كل شخص له أن يأخذ نقوده وما لديه من حلى ومتاع ثمين ليغادر البلد سريعا، فبادر السكان إلى تنفيذ ذلك وخرجوا رجالا ونساء وأطفالا يسرعون السير هائمين خوف أن تلتهمهم النار بما يحملون، وكان البلد محاطا بصنوف من العساكر المسلحة بالبنادق فانقضوا على الناس عند خروجهم وسلبوهم كل ما وجدوه معهم، وكانوا يفتشون الناس ويرفعون منهن ملابسهن أو يمزقونها عليهن عاريات لا يستر أجسادهن شىء.. يضيف عمدة العزيزية: «بعد أن استولى رجال الجيش الإنجليزى على ما يملكه أهل البلد انبثوا فيه، وأشعلوا النار فى البيوت بأن كانوا يجمعون القش والمواد السريعة الالتهاب ويوقدون بها النار، وكانوا يطلقون النار على كل من رأوه يحاول أن يعود ليطفئ بيته، ولما كان البلد مكونا من أربعة كفور انتقلوا إليها، وكانت كلها محصورة بالعساكر والجنود المسلحين يفعلون بها مثل ما فعلوا بالكفر الذى أقطنه، وقبضوا على المشايخ فضموهم لى بعد نهب منازلهم».
استمرت ممارسات جنود الاحتلال الوحشية حتى ارتفعت شمس النهار، ويذكر عمدة العزيزية أن الجنود اقتادوه ومن معه من المشايخ قرب الظهر إلى نقطة الحوامدية، فوجدوا بها أيضا عمدة البدرشين، وهناك أبلغهم الضابط الأكبر للنقطة، قائلا: سأخبركم الآن عن تهمكم، فجريمة العزيزية أن بعض أهلها ضربوا أحد الضباط البريطانيين فى الطريق المؤدى لأهرام سقارة، وكان الضابط يقصدها مع بعض الرفاق من الضباط، وجريمة البلدين معا هى أن أهلها اشتركوا فى حريق محطتى الحوامدية والبدرشين.. يضيف عمدة العزيزية: «أنذرنا كبير الضباط بأن نجمع كل ما فى البلد من سلاح وإلا أحرقها وأحرقنا فيها، وقال بأن كل مخالفة يجازى عليها فى المستقبل بالإعدام، ثم كتب بالإنجليزية فى ورقة كلف الملاحظ ترجمتها بالعربية فى ورقة أخرى ففعل، وتلاها علينا وهى بالنص:
«نحن عمد ومشايخ العزيزية والبدرشين نأسف على ما أصاب السكة الحديدية من التخريب وما حدث من الاعتداء على عساكر الدولة البريطانية، ونقر بأن كل ما حدث لبلادنا حق وفى محله، ونحن على استعداد لتقديم الأنفار التى تُطلب منا مهما بلغ عددهم مجانا وبلا أجر، وإذا تأخرنا نكون قابلين الأحكام العرفية».. يؤكد عمدة العزيزية أنه وعمدة البدرشين وقعا على هذه الورقة تحت التهديد بالرمى بالرصاص، ولما عاد إلى البلدة وجد أن عدد البيوت المحروقة بلغ مائة وثمانين بيتا تقريبا، وأن أكثر الأهالى هاجروا.
هذه الفظائع التى كشفها عمدة العزيزية، تزامن معها فظائع فى البدرشين ذكرها أيضا عمدتها، فماذا قال عنها؟