كانت الساعة الرابعة والنصف من منتصف ليل 25 مارس، صباح 26 مارس، مثل هذا اليوم ، 1919 حين هجم نحو 40 عسكريا إنجليزيا مسلحا بقيادة ضابط على منزل عمدة البدرشين بمحافظة الجيزة «محمد منظور الدالى»، وذلك ضمن هجمات لقوات الاحتلال على أماكن عديدة أثناء ثورة الشعب المصرى التى بدأت شرارتها ضد الاحتلال الإنجليزى يوم 9 مارس 1919، وارتكب الجنود عمليات قتل ونهب، حسبما يؤكد عمدة البدرشين فى شكواه إلى الجمعية التشريعية، ومجلس المديرية بالجيزة، وحدث نفس الأمر مع قرية «العزيزية»، وتقدم عمدتها بشكوى مماثلة، حسبما يذكر عبدالرحمن فهمى فى الجزء الأول من مذكراته «يوميات مصر السياسية»..» راجع، ذات يوم، 25 مارس 2022».
يسجل «عمدة البدرشين» فى شكواه وقائع الهجوم على منزله والاعتداءات على أسرته وسرقة النقود والحلى، واقتياده ليدل على بيوت المشايخ وبعض الأهالي، ثم اقتياد الجميع إلى نقطة البدرشين، وكانت الحرائق ترتفع وتلتهم المنازل مع أصوات استغاثة، يتخللها ضرب بالرصاص..يذكر «العمدة» أسماء الذين قتلوا من جراء هذه الاعتداءات الوحشية وهم.. «إبراهيم عطوة الدالى» وقتله الجنود فى عقر داره بعد أن سلبوا نقوده، و «عبدالجواد سيد معروف»، وقتلوه فى منزله بالرصاص، وبعد موته اجتزوا رأسه وفصلوها عن جثته، و«إبراهيم سيد رفاعى» وقتلوه رميا بالرصاص، و»غالية» زوجة الشيخ حسنين الجرار «الكفيف البصر» وحاول جندى منهم أن ينال بغيته منها بالاعتداء على عفتها فدافعت عن عرضها دفاعا شديدا، وقاومت الجندى مدة طويلة، ولما لم يتمكن منها أخذ يضربها بعقب البندقية فى رأسها حتى سقطت جريحة، وبعد ذلك جردوها من حليها، وفاضت روحها بعد ساعات قليلة.
يضيف العمدة، أن الجنود اعتدوا بوحشية على «محمد أبوالعلا ضيا» وهشم الرصاص ذراعه وقطعه الطبيب فى اليوم التالى، كما اعتدوا على الخفير الرسمى «على السيد الدالى»، واخترقت الرصاصة جسمه، وضربوا «أحمد أحمد حماد» بعقب البندقية فى رأسه، فأصابه بجرح بليغ، واستمر أحد العساكر يضربه حتى أغمى عليه وسرقوا ماكان فى جيبه، وضربوا «السيد محمد كاغه» ضربا مبرحا بسنجه فى صدره فجرحوه..يؤكد العمدة فى شكواه، أن الشراذم البريطانية أخذت تحمل الأسلاب والغنائم من البلدة، وغاب جنديان فى البلد طويلا، فكلف الضابط الكبير ملاحظ البوليس بالبحث عنهما فى البلد، وجلس الضابطان والعسكر بقهوة فى شرق البدرشين يقتسمون النقود والحلى أمام أعيننا، ثم عاد الملاحظ بالجنديين.
يؤكد عمدة البدرشين، أن حوادث البلدة العديدة تبلغ من البشاعة والشناعة والفظاعة مالا قدرة له على وصفها..يذكر: «على سبيل المثال ما نال الشيخ محمود عبدالمطلب أحد مشايخ البلد، فإن العساكر دخلوا منزله بلا ضابط، وجردوه من كل ماكان به من نقود وحلى تبلغ قيمته سبعمائة جنيه تقريبا وأهانوا زوجته، وسلبوا أساورها وحلقها وكردانها، واقتسموا ماحصلوا عليه أمامه، وأخرجوه مخفورا إلى قنطرة البلد ثم نسوه لاشتغالهم بسواه فعاد إلى بيته، ودخل عساكر الانجليز منزل سليمان غطاس فلم يتركوا به نقودا أوحليا، ولم يقتصر أذاهم على الناس، بل تعداهم إلى الماشية فإنهم ضربوا جاموسة هذا الرجل بالرصاص فقتلوها».. يضيف العمدة: «مما يجب ذكره أن العساكر اعتدوا أيضا على باشجاويش نقطة البدرشين الذى كلفه الملاحظ أن يصحب قوة إنجليزية للتفتيش فى ناحية من البلد مع أنه كان بملابسه الرسمية، ودخلوا بيته وسرقوا منه بعص الجنيهات، وقرر الباشجاويش المذكور مارآه من نهب البيوت وإشعال النار برمى القنابل المحرقة وإطلاق القنابل فى الحال على من يحاول الممانعة فى سلب ماله».
يختتم عمدة البدرشين شكواه بتقديم استقالته للمديرية لعجزه عن القيام بأعباء عمله.. يذكر عبدالرحمن فهمى، أن مدير الجيزة «حمدى بك سيف النصر» عقد مجلس المديرية، وأثبت نص بلاغى عمدة البدرشين، وعمدة «العزيزية» فى دفتر محاضر الجلسات، غير أن رجال السلطة الإنجليزية طلبوا هذا الدفتر ونزعوا منه المحضر، وطبع نص البلاغين فى كراسة صغيرة انتشرت بسرعة البرق بين الناس فى القاهرة وغيرها من بلاد القطر.
امتدت فظائع الإنجليز فى هذا اليوم أيضا إلى قرية «الشبانات» بمديرية الشرقية، يذكر عبد الرحمن فهمى تقرير تلقاه من «راغب أفندى بشاى» أحد أبناء البلدة، قال فيه أن قوة من الجنود البريطانيين بقيادة ضابط نزلوا البلدة بعد أن قتل جندى هندى كان حارسا للسكة الحديدية بجهة البلدة ولم يعثروا على جثته، وأمر الضابط بإخراج جميع الأهالى من كبير وصغير، وفصلوا الرجال عن النساء ثم نصبوا مدفع رشاش خلف الرجال، وفى الساعة الثانية والنصف أمر الضابط بإحراق البلدة، وحطم الجنود أبواب المنازل ودخلوها، وأخذوا منها كل ماعثروا عليه، وبعد أن أحرقوا البلدة تركوها وانسلوا خيفة بين الغلال، وبات أربعة آلاف نفس فى العراء، واستمرت النار مشتعلة يومين وفى بعض الأماكن بقيت بضعة أيام.