فى لقاء لى مع الموسيقار كمال الطويل عام 1996، وصف الموسيقار محمد القصبجى بأنه «المجدد الأعظم فى تاريخ الموسيقى العربية»، وفى 25 مارس 1966 توفى «القصبجى» عن 74 عاما «مواليد 15 إبريل 1892»، وبعد رحيله بيومين وتحديدا فى 27 مارس، مثل هذا اليوم، 1966، كتب الناقد الفنى جليل البندارى مقالا طويلا نادرا فى جريدة الأخبار بعنوان «القصبجى خالد»، يستعيد فيه وقائع آخر حوار له معه، يكشف فيه «القصبجى» أسرارا عديدة عن مسيرته الفنية.
يسأله «البندارى» عن عدد ألحانه عامة وبينها ألحانه لأم كلثوم وأهمها، يجيب: «لحنت 1150 أغنية، منها 120 أغنية لأم كلثوم»، وأهم لحن لها: «إن كنت أسامح وأنسى الأسية»، يذكر «البندارى» أنه توقع أن يذكر القصبجى «رق الحبيب»، لكنه بهذه الإجابة الذكية كان يشير إلى أنه أول من طور الأغنية العربية بهذا اللحن القديم الذى انطلق فى عالم الموسيقى والغناء، كما تنطلق الآن الصواريخ فى عالم الفضاء».
يعاتبه البندارى على أنه لم يلحق بقطار الأوبريت كزملائه القدامى، سيد درويش، وإبراهيم فوزى، وزكريا أحمد، فيرد: أنه لحن ست أوبريتات هى «المظلومة، وحرم المفتش، وكيد النسا، وحياة النفوس، وسميرا ميس»، وأن بعضها قدمتها منيرة المهدية وبعضها قدمه نجيب الريحانى، يذكر القصبجى أنه هو الذى اكتشف ليلى مراد سنة 1933، رغم أن أباها كان مطربا مشهورا (زكى مراد)، ويكشف عن أنه لحن لها قصيدة «ليت للبراق عينا» لتغنيها فى فليم «ليلى فى الصحراء» لبهيجة حافظ، وبعد أن سجلت الأغنية ذهبت إلى الاستديو لتمثل دورها فوجئت بأنها ستمثل دور جارية لبهيجة حافظ فى الفيلم، فرفضت تمثيل الدور، وقالت أنا لا ألعب دور خادمة لبهيجة حافظ ولو دفعت مليون جنيه، وانصرفت من الاستديو وهى غاضبة.
اضطر «القصبجى» إلى أن يبحث عن مطربة أخرى تغنى اللحن، وتقوم بدور الجارية، حتى وجد المطربة حياة محمد، التى سجلت الأغنية ولعبت الدور، ولكن القصبجى عاد وعرض اللحن على اسمهان فغنته وسجلته على أسطوانة، وكان هذا اللحن هو أول لحن تغنيه ثلاث مطربات لملحن واحد هو القصبجى، وعن أول لحن غنته له أم كلثوم، قال: «إن حالى فى هواها عجب»، ثم لحن «أخذت صوتك من روحى»، ثم لحن «صحيح خصامك ولا هزار»، ثم «يا ريتنى كنت النسيم» التى استوحاها من قصيدة للشاعر عمر بن أبى ربيعة الذى تغزل بها فى السيدة سكينة وهى تؤدى فريضة الحج، فدعت عليه بالفضيحة»
يذكر «البندارى»، أنه فى العام الماضى «1965» كتب الشاعر صالح جودت مقالا يقول فيه، أن أغنية «انت عمرى» ليست أول أغنية يلحنها عبدالوهاب لأم كلثوم، فسبق أن لحن لها منذ 35 سنة أغنية «تراضينى وتغضبنى» التى اشترك فى تلحينها الموسيقار محمد عبدالوهاب، يضيف «البندارى»: «تبين لى أن هذه الأغنية مسجلة على أسطوانة بصوت وبألحان عبد الوهاب ولا علاقة لها بأم كلثوم، وأيامها اتصلت بالقصبجى وسألته عن حقيقة هذا الموضوع فقال لى أنه لم يشترك فى تلحين أى أغنية مع الموسيقار محمد عبدالوهاب، وأن هذه الأغنية لحنها عبدالوهاب وحده، وغناها بصوته، وسجلها على اسطوانة من أسطوانات بيضافون، وقال القصبجى: عبدالوهاب زميلى وتلميذى»
يسأله «البندارى»: «ماذا كنت تعمل قبل أن تلحن لأم كلثوم؟ يجيب «القصبجى»: كنت ألحن لمنيرة، لحنت لها أغنيات كثيرة أشهرها أغنية «بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة، ولحنت لنعيمة المصرية، ورتيبة أحمد وعزيزة فخرى»، يسأله البندارى عن الأغانى الوطنية.. يرد، أنه فى خلال المفاوضات التى قام بها سعد زغلول وماكدونالد، لحن أغنية يسخر فيها من الانجليز، اشتهرت فى ذلك الوقت هى أغنية «أنزلى عنه، واعدل الكستلة»
يختتم «البندارى» مقاله قائلا: «بدأ القصبجى حياته مدرسا للغة العربية، وكان يلبس الجبة والعمامة والقفطان، فلما احترف الموسيقى والتلحين خلع الجبة والعمامة والقفطان، وكان فى أوقات فراغه يهوى تصليح الساعات، وكان يستيقظ من النوم ليتولى تصليح ساعات أصدقائه وجيرانه مجانا، وكان يقول لى أن ألحانه دقيقة كآلة الساعة الدقيقة، ومن الصعب على غيره من الملحنين أن يصوغ ألحانه بأسلوب القصبجى، وكان يقول لى إن لحن القصبجى كالساعة السويسرية تماما»، يضيف «البندارى»: «هذه باختصار هى قصة الفنان الذى انتقل إلى الحياة الأخرى، أو الرجل الذى كان يلبس النظارة السوداء وتراه على يمين أم كلثوم كلما ظهرت على المسرح، إن القصبجى كان كابتن فريق أم كلثوم، ومات الكابتن، ولكنه سيعيش ويعيش ويعيش فى عشرات الألحان والأنغام على شفتى أم كلثوم، وعلى أوتار العود، كلما فتحنا الراديو أو دارت أجهزة التسجيل على أغنية من أغنيات شاعرة الحب والجمال كلما رق الحبيب».