ركب السلطان العثمانى عبدالعزيز، ومعه ابنه الأمير يوسف عز الدين، ووزيراه فؤاد باشا وزير الحربية، ومحمد باشا وزير البحرية وغيرهما، اليخت الفخم «فيض جهاد» قادمين إلى القاهرة يوم 3 إبريل 1863، فى زيارة هى الأولى لسلطان عثمانى إلى مصر منذ غزو سليم الأول، بهزيمة السلطان الغورى فى مرج دابق عام 1516 ثم طومان باى فى الريدانية عام 1517، كما كانت الأولى لسلطان عثمانى يغادر عاصمة ملكه منذ موت السلطان مراد خان الرابع سنة 1630، حسب إلياس الأيوبى فى مجلده الأول «تاريخ مصر فى عهد الخديو إسماعيل باشا».
وفيما يؤكد نوبار باشا فى مذكراته، أنه لا يدرى ما الهدف من وراء هذه الزيارة العابرة، ويعتبرها «مجرد ذكرى عادية»، يذهب «الأيوبى» إلى أن «خبرها دوى فى وادى النيل، وجعله يهتز طربا من أعلاه إلى أقصاه، وجعل عيون عموم العالم الإسلامى تتجه إليه»، أما عبدالرحمن الرافعى فيذكر فى الجزء الأول من كتابه «عصر إسماعيل»: «قضى السلطان فى ضيافة إسماعيل عشرة أيام لقى فيها من مظاهر الإكرام والحفاوة البالغة ما جعل لإسماعيل منزلة كبيرة عنده، واغتنم إسماعيل الفرصة، ليكسب من تركيا حقوقا ومزايا جديدة وبذل المال بسخاء، فغمر السلطان وحاشيته بالهدايا والتحف الفاخرة حتى ملأ بها سفينة بأكملها، وزود الصدر الأعظم فؤاد باشا وحده بستين ألفا من الجنيهات رشوة، ومهدت هذه الزيارة الطريق أمام إسماعيل لينال رغباته».
يستفيض «الأيوبى» فى ذكر وقائع أيام الزيارة، وكان ما جرى فى 10 إبريل، مثل هذا اليوم، 1863 أكثرها طرافة لكنها شكلت حرجا بالغا لإسماعيل، يذكر «الأيوبى» أن اليوم كان يوم جمعة، وذهب السلطان عبدالعزيز للصلاة فى مسجد محمد على بالقلعة، وذهب إليه من السراى فى موكب يركب فيه على جواد، ويسير معه أمراء بيته السلطانى وأمراء البيت العلوى والوزراء العثمانيون والمصريون وكبار رجال الدولة وكوكبة من الفرسان، وكانت جميع الأعالى المحيطة المطلة على الساحة الفسيحة أمام المسجد غاصة بالمتفرجين، وبعد انتهاء الصلاة توجه السلطان إلى قبر محمد على باشا، ووقف برهة خاشعا أمامه ثم قال لمن حوله: «لقد كان رجلا عظيما».
يذكر «الأيوبى» أن السلطان عاد إلى سراى القلعة، واستقبله الأعاظم والعلماء والبطاركة والرؤساء الروحانيون والوجهاء والأعيان والتجار للتهنئة، وأقيمت الزينات، وتفنن صانعو الألعاب النارية ومن إعجاب السلطان بهم طلب من إسماعيل أن يأخذ بعضهم معه إلى القسطنطينية، لكن حدث ما جعل دماء إسماعيل تكاد أن تتجمد فى شرايينه، ويرويه «الأيوبى»، مشيرا إلى أن إسماعيل كان يعتقد أن شيوخ الأزهر ليست لديهم خبرة ودراية بالواجبات الرسمية، فاختار أربعة منهم فقط «ليتشرفوا بالمثول بين يدى الحضرة السلطانية وهم: «مصطفى العروسى شيخ الجامع الأزهر، والشيخ السقاء، والشيخ عليش، والشيخ العدوى من كبار علمائه»، ويوضح الأيوبى: «أولهم وثانيهم من دواهى الرجل وأوسعهم صدرا، وثالثهم من المتصوفين، وأما الرابع فكان من الورع والتوكل على الله بحيث لا تهمه ولا ترهبه العظمات البشرية».
أوكل «إسماعيل» إلى قاضى القضاة التركى أمر تعليم الشيوخ آداب المثول بين يدى السلطان، ولما جاء دورهم فى المقابلات، نفذ الشيوخ، العروسى، والسقاء، وعليش، ما علمه لهم قاضى القضاة ،أما الشيخ العدوى، فنفذ منها فقط الانحناء عند باب الدخول، وسار نحو السلطان بمشيته الاعتيادية، ولم يعاود الانحناء ثم صعد إلى المنصة التى يقف السلطان عليها، ونظر إليه بعين ثابتة قائلا: «السلام عليكم يا أمير المؤمنين ورحمة الله»، وابتسم السلطان ورد التحية وانحنى أمام العدوى انحناءة خفيفة.. يصف الأيوبى حالة إسماعيل قائلا: «وثب قلبه فى صدره، ولولا مهابة السلطان لركل الرجل وأخرجه، وأخذ يحسب لغضب السلطان ألف حساب».
وجه الشيخ كلماته إلى السلطان، قائلا فيها ما يجب عليه نحو رعاياه بصفته كبير الحكام، لأن الحكام خلفا الأنبياء فى الناس، وفيما يجب على أمير المؤمنين بصفته خليفة الرسول نحو المؤمنين، وأن ثوابه عند الله سيكون بمقدار ثقل المسؤولية وحسن نفاذه فيها.. يقول «الأيوبى»: «لما فرغ العدوى من خطبته ختمها بالسلام، ثم انحنى أمام السلطان وخرج وسبحته بيديه، وعلى الباب وجد اللوم الشديد على فعلته، لكنه رد: «أنا قابلت أمير المؤمنين وأما أنتم فكأنكم قابلتم صنما، وكأنكم عبدتم وثنا».
انصرف الشيخ، وسأل السلطان، «إسماعيل» عن الشيخ، فأجابه: «هو شيخ من أفاضل العلماء لكنه مجذوب، واستمحى جلالتكم عفوا عن سقطته»، فرد السلطان: «كلا، بل إنى لم أنشرح إلى مقابلة أحد انشراحى إلى مقابلته»، وأمر له بخلعة سنية وألف جنيه.