تعدغزوة بدرمن أهم غزوات المسلمين تحت قيادة رسول الإسلام سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- التى وقعت فى السابع عشر من شهر رمضان المبارك، فإذا نظرنا إلى غزوات النبى صلى الله عليه وسلم وبعوثه وسراياه، لا يمكن لنا ولا لأحد ممن ينظر فى أوضاع الحروب وآثارها وخلفياتها لا يمكن لنا إلا أن نقول : أن النبى صلى الله عليه وسلم كان أكبر قائد عسكرى فى الدنيا، وأشدهم وأعمقهم فراسة وتيقظاً، إنه صاحب عبقرية فذة فى هذا الوصف.
كتاب السيرة النبوية الرحيق المختوم لصفى الرحمن المباركفوري، أوضح أن الرسول استطاع بهذه الغزوات فرض الأمن وبسط السلام، وإطفاء نار الفتنة، وكسر شوكة الأعداء فى صراع الإسلام والوثنية، وإلجائهم إلى المصالحة، وتخلية السبيل لنشر الدعوة، كما استطاع أن يتعرف على المخلصين من أصحابه ممن هو يبطن النفاق، ويضمر نوازع الغدر والخيانة.
غزوة بدر الكبرى أول معركة من معارك الإسلام الفاصلة
استعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للخروج ومعه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ـ 313، أو 314، أو 317 رجلاً ـ 82 أو 83 أو 86 من المهاجرين و 61 من الأوس و 170 من الخزرج. ولم يحتفلوا لهذا الخروج احتفالا بليغا، ولا اتخذوا أهبتهم كاملة، فلم يكن معهم إلا فرس أو فرسان : فرس للزبير بن العوام، وفرس للمقداد بن الأسود الكندي، وكان معهم سبعون بعيرا يعتقب الرجلان والثلاثة على بعير واحد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ومرثد بن أبى مرثد الغنوى يعتقبون بعيراً واحد.
واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم، فلما كان بالروحاء رد أبا لبابة ابن عبد المنذر، واستعمله على المدينة.
ودفع لواء القيادة العامة إلى مصعب بن عمير القرشى العبدري، وكان هذا اللواء أبيض.
وقسم جيشه إلى كتيبتين :
1- كتيبة المهاجرين : وأعطى رايتها على بن أبى طالب، ويقال لها : العقاب.
2- وكتبية الأنصار : وأعطى رايتها سعد بن معاذ. ـ وكانت الرايتان سوداوين ـ.
وجعل على قيادة الميمنة الزبير بن العوام، وعلى الميسرة المقداد بن عمرو- وكانا هما الفارسين الوحيدين فى الجيش - كما سبق - وجعل على الساقة قيس بن أبى صعصعة، وظلت القيادة العامة فى يده صلى الله عليه وسلم كقائد أعلى للجيش.
وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذا الجيش غير المتأهب، فخرج من نقب المدينة، ومضى على الطريق الرئيسى المؤدى إلى مكة، حتى بلغ بئر الروحاء، فلما ارتحل منها ترك طريق مكة إلى اليسار، وانحرف ذات اليمين على النازية يريد بدراً فسلك فى ناحية منه حتى جزع ودياً يقال له : رحقان بين النازية وبين مضيق الصفراء، ثم مر على المضيق ثم انصب منه حتى قرب من الصفراء، ومن هنالك بعث بسبس بن عمرو الجنى وعدى بن أبى الزغباء الجهى إلى بدر يتجسسان له أخبار العير.
قوام الجيش المكي
وكان قوام هذا الجيش نحو ألف وثلاثمائة مقاتل فى بداية سيره، وكان معه مائة فرس وستمائة دِرْع، وجمال كثيرة لا يعرف عددها بالضبط، وكان قائده العام أبا جهل ابن هشام، وكان القائمون بتموينه تسعة رجال من أشراف قريش، فكانوا ينحرون يومًا تسعًا ويومًا عشرًا من الإبل.
ساعة الصفر وأول وقود المعركة
وكان أول وقود المعركة الأسود بن عبد الأسد المخزومى ـ وكان رجلًا شرسًا سيئ الخلق ـ خرج قائلًا : أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه. فلما خرج خرج إليه حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه فلما التقيا ضربه حمزة فأطَنَّ قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دمًا نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، يريد أن تبر يمينه، ولكن حمزة ثنى عليه بضربة أخرى أتت عليه وهو داخل الحوض.
المبارزة
وكان هذا أول قتل أشعل نار المعركة، فقد خرج بعده ثلاثة من خيرة فرسان قريش كانوا من عائلة واحدة، وهم عتبة وأخوه شيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، فلما انفصلوا من الصف طلبوا المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة من شباب الأنصار عَوْف ومُعَوِّذ ابنا الحارث ـ وأمهما عفراء ـ وعبد الله بن رواحة، فقالوا : من أنتم ؟ قالوا : رهط من الأنصار. قالوا : أكِِفَّاء كرام، ما لنا بكم حاجة، وإنما نريد بنى عمنا، ثم نادى مناديهم : يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا على )، فلما قاموا ودنوا منهم، قالوا : من أنتم ؟ فأخبروهم، فقالوا : أنتم أكفاء كرام، فبارز عبيدة ـ وكان أسن القوم ـ عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة، وبارز على الوليد. فأما حمزة وعلى فلم يمهلا قرنيهما أن قتلاهما، وأما عبيدة فاختلف بينه وبين قرنه ضربتان، فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم كَرَّ على وحمزة على عتبة فقتلاه، واحتملا عبيدة وقد قطعت رجله، فلم يزل ضَمِنًا حتى مات بالصفراء، بعد أربعة أو خمسة أيام من وقعة بدر، حينما كان المسلمون فى طريقهم إلى المدينة. وكان على يقسم بالله أن هذه الآية نزلت فيهم : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِى رَبِّهِمْ } الآية [ الحج : 19 ].
الهجوم العام
وكانت نهاية هذه المبارزة بداية سيئة بالنسبة للمشركين؛ إذ فقدوا ثلاثة من خيرة فرسانهم وقادتهم دفعة واحدة، فاستشاطوا غضبًا، وكروا على المسلمين كرة رجل واحد.
وأما المسلمون فبعد أن استنصروا ربهم واستغاثوه وأخلصوا له وتضرعوا إليه تلقوا هجمات المشركين المتتالية، وهم مرابطون فى مواقعهم، واقفون موقف الدفاع، وقد ألحقوا بالمشركين خسائر فادحة، وهم يقولون : أحَد أحَد.
الرسول صلى الله عليه وسلم يناشد ربه
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان منذ رجوعه بعد تعديل الصفوف يناشد ربه ما وعده من النصر، ويقول : ( اللّهم أنجز لى ما وعدتني، اللهم إنى أنشدك عهدك ووعدك )، حتى إذا حَمِىَ الوَطِيسُ، واستدارت رحى الحرب بشدة واحتدم القتال، وبلغت المعركة قمتها، قال : ( اللهم أن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد، اللهم أن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدًا ). وبالغ فى الابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فرده عليه الصديق، وقال : حسبك يا رسول الله، ألححت على ربك.
وأوحى الله إلى ملائكته : { أَنِّى مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ } [ الأنفال : 12 ]،وأوحى إلى رسوله : { أَنِّى مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ } [ الأنفال : 9 ] ـ أى إنهم ردف لكم، أو يردف بعضهم بعضًا أرسالًا، لا يأتون دفعة واحدة.
نزول الملائكة
وأغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة واحدة، ثم رفع رأسه فقال : ( أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثَنَاياه النَّقْعُ ) [ أى الغبار ] وفى رواية ابن إسحاق : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، وعلى ثناياه النقع ).
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب العريش وهو يثب فى الدرع ويقول : { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } [ القمر : 45 ]،ثم أخذ حَفْنَةً من الحَصْبَاء، فاستقبل بها قريشًا وقال : ( شاهت الوجوه ) ورمى بها فى وجوههم، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه من تلك القبضة، وفى ذلك أنزل الله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى } [ الأنفال : 17 ].
إبليس ينسحب عن ميدان القتال
ولما رأى إبليس ـ وكان قد جاء فى صورة سراقة بن مالك بن جُعْشُم المدلجى كما ذكرنا، ولم يكن فارقهم منذ ذلك الوقت ـ فلما رأى ما يفعل الملائكة بالمشركين فر ونكص على عقبيه، وتشبث به الحارث بن هشام ـ وهو يظنه سراقة ـ فوكز فى صدر الحارث فألقاه، ثم خرج هاربًا، وقال له المشركون : إلى أين يا سراقة ؟ ألم تكن قلت : إنك جار لنا، لا تفارقنا ؟ فقال : { إِنِّى أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّى أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [ الأنفال : 48 ]، ثم فر حتى ألقى نفسه فى البحر.
الهزيمة الساحقة
وبدأت أمارات الفشل والاضطراب فى صفوف المشركين، وجعلت تتهدم أمام حملات المسلمين العنيفة، واقتربت المعركة من نهايتها، وأخذت جموع المشركين فى الفرار والانسحاب المبدد، وركب المسلمون ظهورهم يأسرون ويقتلون، حتى تمت عليهم الهزيمة.
مصرع أبى جهل
قال عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه إنى لفى الصف يوم بدر إذ التفت، فإذا عن يمينى وعن يسارى فتيان حديثا السن، فكأنى لم آمن بمكانهما، إذ قال لى أحدهما سرًا من صاحبه : يا عم، أرنى أبا جهل، فقلت : يابن أخي، فما تصنع به ؟ قال : أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : والذى نفسى بيده لئن رأيته لا يفارق سوادى سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك. قال : وغمزنى الآخر، فقال لى مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبى جهل يجول فى الناس. فقلت : ألا تريان ؟ هذا صاحبكما الذى تسألانى عنه، قال : فابتدراه فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : ( أيكما قتله ؟ ) فقال كل واحد منهما : أنا قتلته، قال : ( هل مسحتما سيفيكما ؟ ) فقالا : لا. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السيفين فقال : ( كلاكما قتله )، وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسَلَبِه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومُعَوِّذ ابن عفراء.
ولما انتهت المعركة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من ينظر ما صنع أبو جهل ؟ ) فتفرق الناس فى طلبه، فوجده عبد الله بن مسعود رضى الله عنه وبه آخر رمق، فوضع رجله على عنقه وأخذ لحيته ليحتز رأسه، وقال : هل أخزاك الله يا عدو الله ؟ قال : وبماذا أخزانى ؟ أأعمد من رجل قتلتموه ؟ أو هل فوق رجل قتلتموه ؟ وقال : فلو غير أكَّار قتلنى، ثم قال : أخبرنى لمن الدائرة اليوم ؟ قال : لله ورسوله، ثم قال لابن مسعود ـ وكان قد وضع رجله على عنقه : لقد ارتقيت مرتقى صعبًا يا رُوَيْعِىَ الغنم، وكان ابن مسعود من رعاة الغنم فى مكة.
وبعد أن دار بينهما هذا الكلام احتز ابن مسعود رأسه، وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : يا رسول الله، هذا رأس عدو الله أبى جهل، فقال : ( الله الذى لا إله إلا هو ؟ ) فرددها ثلاثًا، ثم قال : ( الله أكبر، الحمد لله الذى صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، انطلق أرنيه )، فانطلقنا فأريته إياه، فقال : ( هذا فرعون هذه الأمة ).
قتلى الفريقين
انتهت المعركة بهزيمة ساحقة بالنسبة للمشركين، وبفتح مبين بالنسبة للمسلمين، وقد استشهد من المسلمين فى هذه المعركة أربعة عشر رجلًا، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار.
أما المشركون فقد لحقتهم خسائر فادحة، قتل منهم سبعون، وأسر سبعون. وعامتهم القادة والزعماء والصناديد.
ولما انقضت الحرب أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على القتلى فقال: (بئس العشيرة كنتم لنبيكم؛ كذبتمونى وصدقنى الناس، وخذلتمونى ونصرنى الناس، وأخرجتمونى وآوانى الناس) ثم أمر بهم فسحبوا إلى قليب من قُلُب بدر.