بدأت الثورة فى حى بولاق ضد الاحتلال الفرنسى، الذى جاء إلى مصر فى حملة بقيادة نابليون بونابرت 1798، وكانت «ثورة بولاق» هى الثانية، واندلعت شرارتها يوم 20 مارس 1800، وكان نابليون غادر القاهرة إلى فرنسا، وحل كليبر محله، وفقا لعبدالرحمن الرافعى، فى الجزء الثانى من موسوعته، «تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر»، مضيفا: «كان من زعماء هذه الثورة عمر مكرم، نقيب الأشراف، وأحمد المحروقى كبير التجار، والشيخ الجوهرى».
بدأت الثورة فى حى بولاق، وكان بطلها الحاج مصطفى البشتيلى، وينقل «الرافعى» عن «الجبرتى» قوله: «أما بولاق فإنها قامت على ساق واحدة، وتحزم الحاج مصطفى البشتيلى وأمثاله من دعاة الثورة، وهيجوا العامة وهيئوا عصيهم وأسلحتهم، ورمحوا وصفحوا، وأول مابدأوا به أنهم ذهبوا إلى وطاق الفرنسيين الذى تركوه بساحل البحر «النيل»، وعنده حرس منهم فقتلوا من أدركوه، ونهبوا جميع ما به من خيام ومتاع وغيره، ورجعوا إلى البلد، وفتحوا مخازن الغلال والودائع التى للفرنساوية، وأخذوا ما أحبوا منها، وعملوا كرانك حول البلد ومتاريس».
يعطى «الرافعى» نبذة بسيطة عن مصطفى البشتيلى بطل هذه الثورة، قائلا: «من أعيان بولاق، سمى البشتيلى نسبة إلى «بشتيل» التابعة للجيزة، وتكلم عنه الجبرتى لمناسبة اعتقاله قبل حوادث هذه الثورة بعدة أشهر، فذكر أن الفرنسيين اعتقلوه فى 4 أغسطس 1799، لما بلغهم من بعض الوشاة أن بوكالته قدورا مملوءة بارودا، ففتشوا الوكالة ووجدوا البارود فى القدور، فضبوطها واعتقلوه، ولما يذكر الجبرتى متى أفرجوا عنه قبل نشوب الثورة».
يؤكد «الرافعى»، أن الثورة عمت أنحاء القاهرة، وازداد جموع المنضمة تحت لوائها، وامتلأت بهم الشوارع والميادين والأسطح حتى بلغ عددهم خمسين ألف ثائر حاملين البنادق والأسلحة والعصى، واندفعت جموعهم تتقدمهم طائفة من المماليك والانكشارية، وانضم إليها النساء والأطفال، فكانت لهم نداءات وصيحات تصم الآذان، يذكر الرافعى: «أسرف الفرنسيون فى ارتكاب الفظائع لإخماد الثورة ولجأوا إلى الطريقة الوحشية وهى إضرام النار فى الأحياء الآهلة بالسكان، وإرسالها على المدينة وأهلها موتا أحمر، فأحدثت الحرائق تخريبا فظيعا فى القاهرة، واحترقت أحياء برمتها وتهدمت بيوت عامرة ودفنت تحت أنقاضها عائلات بأكملها، ومن الأحياء التى التهمتها النار خط الأزبكية وخط الساكت والفوالة والرويعى وبولاق وبركة الرطلى وما جاورها وباب البحر والخروبى والعدوى إلى باب الشعرية».
يذكر الدكتور عبدالعزيز محمد الشناوى، فى الجزء الثانى من كتابه «الأزهر جامع وجامعة»: «إزاء رفض الثورة التسليم أنذر كليبر العاصمة بالاستسلام، فلم يزد زعماء الثورة إلا إصرارا على مواصلة القتال، فأمر بالهجوم العام على حى بولاق وضربة بالمدفعية، وإشعال النيران فى البيوت والمتاجر والوكائل، وتناثرت جثث القتلى ودفنت عائلات بأكملها تحت الأنقاض أواحترقت فى لهيب النيران حتى دمر الحي، ثم تتابع هجوم الفرنسيين على سائر أحياء القاهرة، مثل باب اللوق، والمدابغ، والفجالة، وكوم أبى الريش، وباب الشعرية، والرويعي، وباب البحر، وحاقت بالثوار الفظائع والأهوال»، يصف الجبرتى الفاجعة التى عاش فيها الأهالى، قائلا: «جرى على الناس ما لا يسطر فى كتاب، ولم يكن لأحد فى حساب، ولا يمكن الوقوف على كلياته، فضلا عن جزئياته، منها عدم النور ليلا ونهارا، وعدم الطمأنينة، وغلو الأقوات، وفقدان الكثير منها خصوصا الأدهان، وتوقع الهلاك كل لحظة، والتكليف بما لا يطاق، وغلبة الجهلاء على العقلاء، وتطاول السفهاء على الرؤساء، وتهور العامة، ولغط الحرافيش، وغير ذلك بما لا يمكن حصره».
أمام هذه الأهوال، استأنف علماء القاهرة مسعاهم فى سبيل حقن الدماء، يذكر»الرافعى»: «انتهت مفاوضات التسليم باتفاق فى 21 إبريل، مثل هذا اليوم، 1800، ووقع عليه ناصف باشا، والأمير إبراهيم بك، وتعهد فيه العثمانيون والمماليك بالجلاء عن القاهرة فى خلال ثلاثة أيام، حاملين أسلحتهم وأمتعتهم ما عدا المدافع، ويتم جلاؤهم فى 25 ابريل 1800، وتعهدوا بمواصلة الجلاء حتى حدود سورية، وتعهد كليبر بالعفو عن جميع سكان القاهرة، والمصريين الذين اشتركوا فى الثورة، لكنه اشترط ألا يغادر المدينة أحد من المصريين بقصد اللحاق بالجيش العثمانى».
يؤكد «الرافعى»: «أخذ الأتراك والمماليك بعد التوقيع على معاهدة التسليم يعدون معدات الرحيل، ثم ارتحلوا بطريق بلبيس، ومعهم زعماء الثورة من المصريين أمثال عمر مكرم وأحمد المحروقى كبير التجار، وهاجر آلاف من السكان ممن توقعوا انتقام الفرنسيين، فتفرقوا فى البلاد، وكانوا محقين فى مخاوفهم لأن كليبر نقض عهده، فأمر بالاقتصاص من سكان القاهرة جميعهم بفرض غرامة جسيمة تنوء بها أكبر العواصم، وفرض على سكان القاهرة غرامة اثنى عشر مليون فرنك نصفها نقدا ونصفها عروضا، وألزم سكان المدينة بتسليم عشرين ألف بندقية وعشرة آلاف سيف وعشرين ألف طبنجة، وخص بعض كبار الأعيان والعلماء بنصيب فادح من هذه الغرامة».