وصل إبراهيم باشا أخيرا إلى باريس، بعد توقف فى «بوردو وتولوز»، وبعد أن أمضى شهورا فى أوروبا للعلاج بدأت من أغسطس 1845، وفى منتصف إبريل 1946 أعلن طبيبه الفرنسى أنه تعافى ويستطيع السفر إلى باريس، فوصل إليها فى 22 إبريل، مثل هذا اليوم، 1946، حسبما يذكر جيلبرت سينويه، فى كتابه «الفرعون الأخير محمد على» ترجمة عبدالسلام المودنى.
يصف «سينويه» استقباله فى باريس، قائلا: «كان استقباله بحماسة وألق، وموكبه يستغرق ساعتين ليعبر المسافة بين المحطة وقصر الإليزيه، وتعد له فى الطابق الأول الغرف التى كان نابليون شغلها من قبل، وكأنها غمزة من عين القدر، فقد نام المنتصر فى معركة «نصيبين» فى هذه الليلة على سرير المنتصر فى معركة «أوسترليتز»، غير أن الإرهاق يبدو عليه مجددا، فينصحه الأطباء ببضعة أيام من الراحة».
مكث إبراهيم باشا فى باريس أربعين يوما، تعاقبت خلالها المقابلات والحفلات ودعوات العشاء دون توقف، حسبما يذكر نوبار باشا، فى مذكراته، وكان يرافقه بوصفه سكرتيرا له، ويتوقف «نوبار» عند ذكريات لإبراهيم فى مدينة فرنيه، التى ظل بها أربعة شهور قبل ذهابه إلى باريس، يذكر: «رأيت هذا الرجل الذى أشعل النار وسفك الدماء فى «المورة» يبكى عند رؤية الريف فى ضواحى مدينة «أجين»، كان هذا المشهد غير منتظر لدرجة أننى أرجعت هذه الدموع إلى آلام عضوية انتابته فجأة، وفيما يبدو أنه قرأ هذا الإحساس على وجهى، فقال لى.. أنظر كم هى جميلة»، وبالفعل كان نهر الدوردونى ينساب وسط السهول والمزارع الخضراء، وعلى شاطئيه المحصولات الغنية بالخير والرخاء، وأكمل يقول: «إننى أبكى لأنى أرى هذه البلاد تنعم بالرخاء بينما مصر تعانى من البؤس، رغم أن أرضها أكثر خصوبة، سوف أغير كل ذلك إذا أمد الله فى عمرى».
يذكر «نوبار»: «تحول الاستقبال الذى ناله إبراهيم من الشعب الفرنسى إلى هتاف مستمر، لأن الجموع كانت تنظر إليه باعتباره المنتصر فى موقعة «نصيبين»، احتشدت الجموع فى كل من تولوز، وبوردو، تحت نوافذ الفندق الذى يقيم فيه حتى صباح اليوم التالى، وفى باريس كانت الجموع تسرع نحو موكبه فى كل مرة يخرج فيها من قصر الإليزيه أو يدخل فيه»، يضيف «نوبار»: «اُستُقبل إبراهيم رسميا من قبل ملك فرنسا الذى قدمه إليه السفير التركى، ثم دُعى إبراهيم بعد الانتهاء من المراسم إلى سهرة عائلية حميمة فى مدينة نويللى، مع أفراد العائلة المالكة الفرنسية»..يؤكد «نوبار»: «كنت متخوفا من هذا اللقاء، وقلقا بخصوص هذه السهرة خشية من إقدام إبراهيم على أحد تصرفاته الجافة التى كانت بالنسبة له أمرا معتادا».
يتذكر «نوبار» ما جرى بين الملك و«إبراهيم» قائلا: «كنت أنظر إلى إبراهيم الذى بدت عليه بحق ملامح عظمية فى الصالون، تحدث مع الملك حديثا طويلا حيث اعترض الأخير على قرار محمد على بالسفر إلى القسطنطينية، فقد أذعن الوالى بالفعل لضغوط السلطان عبدالمجيد، فذهب إلى عاصمة الإمبراطورية، وأصبح هذا الحدث بالفعل حينذاك حديث الشرق، كما أعرب ملك فرنسا عن مخاوفه لإبراهيم بالنسبة لسلامة الوالى محمد على، واسترسل فى إقناعه بعدم التفكير فى الذهاب إلى القسطنطينية، ثم حدثه عن فنجان القهوة الشهير» لم يذكر نوبار قصده من هذا الفنجان وإن كان يُفهم منه التسمم.
خلال الأربعين يوما، تعاقبت المقابلات والحفلات ودعوات العشاء دون توقف، وفقا لنوبار، مضيفا: «بالإضافة إلى الزيارات الرسمية، زار مصنع «الجوبلان» للنسيج والسجاد، ثم مصانع أخرى، وأذكر أن إبراهيم كان يبحث فى التفاصيل باهتمام شديد، ويناقش أدق الأمور وفى جيبه قطعة خبز يأكل منها أثناء زيارته للمصنع، كان يعرف كل شىء يتعلق بالصناعة، فقد كان على علم بكل ما تحقق من تقدم فى هذا المجال، لأنه درس كل هذه المعلومات من التقارير التى كانت تصله مع القادمين إلى مصر من ذوى المكانة الرفيعة أثناء فصل الشتاء ليحلوا ضيوفا على الوالى محمد على، حيث كان إبراهيم بتجاذب معهم أطراف الحديث».
زار إبراهيم متحف فرساى، يؤكد «نوبار»، أن هذه الزيارة كشفت له عن جانب من أوروبا لم يكن هو ولا أبوه يعرفان عنه شيئا، فلم تكن اللوحات فى المتحف هى التى يمكن أن تسترعى اهتمامه، فالرسم كان بالنسبة له مثل الموسيقى حيث كانت اللوحات كبيرة الحجم تساوى فى نظره الآلة الرئيسية فى الفرقة الموسيقية التى تعزف، وهى بالنسبة لفن الموسيقى تعكس الذوق الأرفع مقاما، لكن مجموعة اللوحات المعروضة فى فرساى كانت تشكل حقب متعاقبة وكاملة لتاريخ أوروبا، وكل لوحة منها كانت تمثل واقعة تاريخية كان يجب أن أشرحها وأعرضها كاملة على إبراهيم فى نفس الوقت والمكان الذى نقف فيه، كان إبراهيم يجد فى هذا الماضى الأوروبى حاضر الشرق وأحداثه المعاصرة.