وقف مصطفى النحاس باشا، رئيس الحكومة الوفدية، أمام مجلس النواب، ليرد على وقائع الفساد التى أوردها مكرم عبيد فى كتابه «الكتاب الأسود»، وذكرها أمام المجلس فى ثلاث جلسات يومى 22 و23 مايو 1943، حسبما يذكر الدكتور مصطفى الفقى فى كتابه «الأقباط فى السياسة المصرية»، مضيفا: «فى الجلسة الثالثة وافق النواب بناء على اقتراح من رئيس المجلس، على وقف عبيد من مواصلة حديثه، لأنه استغرق الوقت المناسب له».
يؤكد «النحاس» فى الجزء الثانى من مذكراته «ربع قرن من السياسة»، تحقيق ودراسة أحمد عز الدين، أن هذه الاتهامات كاذبة، وفندها جميعا فى بيانه أمام النواب الذى ختمه قائلا: «يحكى أنه كان فى مصر شخص يسمى مكرم عبيد بلغ من الشهرة أقصاها، ومن المنزلة منتهاها، قربه رئيسه وعظمه زعيمه حتى إذا بلغ القمة، وظن أن لا أحد بعده، أخذه الغرور وزين له الشيطان الغرور، فسقط من حالق محطم العقل مزعزع الفكر مضطرب أوضاع الحياة، كان فى مصر شخص يسمى بهذا الاسم، فانمحى من الوجود السياسى ذلك الاسم، رحمه الله».
اعتبر «النحاس» أن «عبيد» الذى كان صديقه ورفيق كفاحه انتهى أمره سياسيًا.. يذكر الدكتور محمد فريد حشيش فى الجزء الأول من كتابه «حزب الوفد -1936 1952»، أن علاقة الصداقة بينهما بدأت بانضمامهما إلى الوفد، ثم زادت توطدا أثناء نفيهما مع سعد زغلول فى جزيرة «سيشل»، وجعلت منهما أصدق صديقين فى السياسة المصرية قبل أن يصبحا عام 1942 أعدى عدوين فى السياسة المصرية أيضًا».
كانت المواجهات عنيفة بينهما فى خصامهما الذى تتعدد الاجتهادات فى تفسير أسبابه، حتى شهدت فصل «عبيد» من الوفد وكان سكرتيرا له، وآخرين مؤيدين له «17 نائبا برلمانيا»، وإسقاط عضويته من النواب، وفى 9 مايو، مثل هذا اليوم، 1944 تم القبض عليه.. يذكر الفقى: «بينما كان «عبيد» مشغولا بنشاطاته ضد النحاس، وانتقاده للوضع العسكرى فى مصر أثناء الحرب، ألقى القبض عليه فى 9 مايو 1944، وبأمر النحاس الحاكم العسكرى، وقضى الأيام القليلة الأولى من فترة اعتقاله فى سجن الأجانب، ثم نقل بعد ذلك إلى استراحة الرى فى «السرو» إلى أن أطلق سراحه ليصبح وزيرًا للمالية فى وزارة أحمد ماهر باشا فى 7 أكتوبر 1944 عندما أقيلت حكومة النحاس».
ينقل «الفقى» عن «عبيد»، توضحيه أثناء محاكمة فؤاد سراج الدين، أمام محكمة الثورة «أن إلقاء القبض عليه كان بناء على رغبة البريطانيين، وبرهن على قوله هذا بأنه كان قد وجه دعوة للشعب المصرى لمواجهة سلطات الاحتلال، قبل ثمانية أيام فقط من قرار اعتقاله»، ويضيف الفقى، أن الحكومة الوفدية أصدرت بيانًا بعد اعتقاله، تشرح فيه أنه كان قد أنذر قبل ذلك بستة أشهر بأن يوقف اجتماعاته التى كان يعقدها، لأنها كانت غير مشروعة فى ظل الأحكام العرفية.
تابعت الحكومة الوفدية اجتماعات «عبيد» التى انضم إليها معارضون لها، ويذكر الدكتور محمد حسين هيكل باشا رئيس مجلس الشورى قبل ثورة 23 يوليو 1952، وأحد قيادات حزب «الأحرار الدستوريين» فى مذكراته، وكان ممن انضموا إلى «عبيد» فى معركته: «قررنا أن ننتقل بنشاطنا من العاصمة إلى بعض الأقاليم نتصل فيها بأنصارنا، يجمعون لنا فيها الناس فنخطبهم، ونبين لهم من أمر الحكومة وعسفها وعبثها فى تصرفاتها ما يشعرون معه بأن الأمور العامة تجرى فى طريق يعرض البلاد للخطر، واتفقنا تنفيذًا لهذه الخطة أن نزور مديرية المنوفية، وأن نطوف بها وأن ننزل عند أنصارنا فيها يومين كاملين أو ثلاثة أيام إن اقتضى الأمر، واجتمعنا فى الموعد الذى حددناه ببندر تلا، بدعوة من زميلنا أحمد باشا عبدالغفار، وذهبنا من محطتها سيرًا على الأقدام إلى منزل شقيقه عبدالسلام بك عبدالغفار».
يؤكد هيكل باشا أن الزيارة نجحت، وخطبوا فى الناس ثم ذهبوا إلى «كفر ربيع» بدار أسرة «أبو حسين» لكن حكمدار المديرية أبلغهم بفض الاجتماع بالقوة، لكنهم رفضوا الأمر.. يضيف: «فى ضحى اليوم التالى ركبنا السيارات لنطوف أرجاء المديرية، فإذا البوليس قد وضع فى طريقنا العقبات بإلقاء مواسير ضخمة تعترض سيرنا أحيانًا، وبحفر الطريق حتى لا تتخطاه السيارات أحيانًا أخرى، مع ذلك استطعنا بشىء من الجهد أن نبلغ غايتنا، وأن ننزل دار مضيفنا السيد بك الفقى ببلدة كمشيش، وأن نخطب الذين لبوا الدعوة لمقابلتنا، وتناولنا طعام العشاء ثم عادت بنا السيارات إلى القاهرة فبلغناها قرابة منتصف الليل».
يضيف «هيكل باشا»: «كانت جولتنا هذه بالمنوفية موفقة، لكنا علمنا بعد قليل أن الإدارة الحكومية بدأت تؤاخذ الذين استقبلونا والذين خفوا للقائنا، وتنزل بهم ألوانا من العنت والمضايقة».