يغرس سيجارته فى المطفأة، وينفخ ما تبقى من دخانها، ليحيط المكان من حوله بهالة من الدخان، قائلا "كلوها والعة وسابولنا الفتافيت والكنسة"، هكذا يصف عبد الله، صاحب مصنع صغير للتريكو بقرية سلامون القماش التابعة لمركز المنصورة بمحافظة الدقهلية، كبار التجار والمستثمرين وأعوانهم من الحكومة.
قصة قرية سلامون القماش
سلامون القماش اليابان الصغرى
سلامون القماش التى كانت تسمى بـ"اليابان الصغرى "يعمل معظم سكانها وعددهم 50 ألف نسمة فى صناعة الملابس منذ 1937، ومنها إلى تجارة الملابس الجاهزة والتريكو والجوارب، ليصبح اسمها من صناعتها.
بالرغم من أنها فى محافظة يمتهن نصف سكانها الزراعة، إلا إن سلامون القماش معظم مزارعيها باعوا أراضيهم منذ عقود لشراء ماكينات لصناعة التريكو والملابس الجاهزة، لتتحول إلى قلعة صناعية صغيرة، كانت تتصدر الصادرات المصرية منذ ما يقرب من 10 سنوات.
"عبد الله " - 52 عاما- يعمل فى مهنة تصنيع الملابس التريكو منذ كان طفلا صغيرا، فقد ورث المهنة عن أبيه الذى ورثها عن جده وأجداده السابقين، فالقرية لها باع طويل، فى مجال التريكو، على خلاف جميع القرى التى تمتهن الزراعة وتجارة الماشية والدواجن.
انتهاء صناعة التريكو
يقول عبد الله لـ "انفراد" :الدولة قضت على صناعة التريكو فى مصر، وقضت على صغار المستثمرين الذين كانوا يشكلون الحلقة الأكبر فى الصناعة وكانوا يدرون العملة الصعبة إلى البلاد فى التوقيت الذى كانت مصر فيه تعتمد اعتمادا كليا على الاستيراد من الخارج، كانت سلامون تصدر لكل دول العالم ملابس الصوف والتريكو و"البروفلات"، وكانت تكفى حاجة السوق المحلية من ملابس التريكو، دون الحاجة إلى استيراد الملابس".
وأكد عبد الله، أن ملاحقة الضرائب له، وعدد آخر من الجهات تسببت فى خراب بيوت عدد كبير من صغار الصناع ـعلى حد وصفه ـ فمطالبات الحكومة لصغار الصناع قد فاقت قدرتهم الإنتاجية وسعة المكسب الذى يحصلون عليه، وقد ضرب مثلا بمصنعه الصغير المكون من مكنتى غزل، فالضرائب تحاسبه على إنتاج 3 ماكينات، بالرغم من إنه لا يملك سوى ماكينتين اثنتين فقط، ولما حاول أن يقنعهم بذلك رسميا، لاقى تعنتا شديدا وتهديدا آثر دفع ضريبة زائدة على الماكينة الوهمية، أفضل من أن يتم تنفيذ هذا الوعيد والتهديد.
100 مصنع صغير للتريكو
قرية سلامون القماش بها ما يزيد عن 100 مصنع للتريكو، ومعرضا، يأتيه الزوار من كل مكان قاصدين شراء الملابس الصوف بأسعار زهيدة، فـ "التيشيرت" الذى يبلغ سعره 400جنية فى السوق القطاعي، قد يصل ثمنه إلى 80 جنيها فى سوق سلامون القماس، من المصنع للمستهلك مباشرة.
وبالرغم من أن القرية لا تعانى كباقى قرى الدقهلية، من مشاكل فى الصرف ومياه الشرب، ولكنها تعانى من انخفاض الدخل، لدى الأفراد، فمعظم سكانها من العاملين فى مجال التريكو، سواء كانوا عمالا أو أصحاب مصانع ومنشآت صغيرة، ويوجد بالقرية مصانع ضخمة أيضا تنتج المئات من قطع الملابس شهريا.
ويباع التريكو فى مواسم محددة، حيث يعتمد سكان القرية، فى حياتهم طيلة أيام العام على شهور أكتودبر ونوفمبر وديسمبر، وينتهى الموسم فى شهر يناير، حيث تقوم محال بيع القطاعى، ونصف الجملة بشراء ما تقوم بصناعته هذه المصانع طيلة أيام العام، فى هذه الشهور الثلاثة، ولأن إنتاج التريكو يستهلك وقتا كبيرا، فتعمل هذه المصانع خلال أشهر العام دون توقف، فقد يستهلك " التيشرت" الواحد ساعة وربع فى الماكينة حتى يتم الإنتهاء منه بشكل يصلح للبيع.
ويمر "التيشرت" بمراحل كثيرة، أولها إختيار التصميم، ثم اللون، ثم مرحلة تجهيز النصف الأول منه وهو منطقة البطن، ثم الجزء الآخر وهو منطقة الظهر، ثم الأكمام، ثم "الياقة" بجميع أنواعها، ثم يقوم أحد الفنيين بتجميع تلك الأجزاء يدويا، وحياكتها كقميص واحد، ثم مرحلة المكواة، ثم التكييس والتغليف.
الخراب يبدأ من الخامات
يقول عبد الله: الخراب بدأ من أساس الصنعة وهو "الفتلة" الخامة الأم وأصل العمل، كان فى الماضى منذ 15 عام مثلا، كانت مصانع الغزل والنسيج فى طنطا وشبين الكوم وسمنود، تمدنا بكافة احتياجتنا من الخيط المادة الأم لصناعة التريكو، ولكن بسبب الفساد، خسرت هذه المصانع وكسدت هذه التجارة، وبدأنا نستورد الخيوط من الخارج، وبعد أن كانت الدولة تتحكم فى سعر التريكو، وكنا نقوم بإخراج منتجات عالية الجودة منخفضة السعر، أصبحنا تحت رحمة المستوردين، والذين أفسدوا الصناعة كلية، من أجل الجشع وتكوين الثروات السريعة.
تستورد مصر الوبريات، وألياف التريكو، من تركيا، حيث نستورد "الطوبس" وهى المادة الخام لتصنيع خيط التريكو من تركيا، يقول عنها محمد حافظ، مالك مصنع تريكو بسلامون القماش "هى الأساس فى تصنيع خيط التريكو، وتصدر تركيا لنا أسوأ المواد الخام، وكلها ألياف صناعية "إكليريك"، تصنيع مصانع البترول، وتصيب العمال ومستخدمى الثياب المصنوعة منها بأمراض صدرية، وجلدية من أهمها الجرب، ولا يوجد بديل لنا سوى هذه الخيوط.
ويضيف "حافظ" الخيط ثمته 37 جنية للكيلو، من الممكن أن يستهلك التيشرت الواحد 740 جرام، وكثير من أصحاب المصانع الصغيرة، لا يملكون مالا لشراء كميات من الخيوط، فيقومون بالشراء بالدين، فيرفع التاجر سعره من 37 جنية إلى 42 جنية وأحيانا 45 جنية للكيلو الواحد على حسب مدة القسط، بالرغم من أنه صوف ردئ للغاية، ولكن هو زى ما بيقولوا أحسن الوحشين.
صغار الصناع تحت رحمة الدولار
ويتابع "حافظ" أضف لارتفاع السعر الجنونى والغير ثابت على حال من يوم ليوم على حسب حالة الدولار أمام الجنية المصري، فإن هناك أكثر من تاجر يقومون باحتكار هذه السلعة الإستراتيجية الهامة، فى غفلة من الحكومة والاجهزة الرقابية، فصغار الصناع الآن تحت رحمة سعر الدولار والبورصة والجنية، وتحت رحمة المحتكرين لصناعة خيوط التريكو، بالرغم من أنه سىء الجودة، ويطلق عليه الناس مجازا صوف والحقيقة أنه لايوجد صوف فى مصر كلها تريكو ألياف صناعية.
يراقب عبد الله العمل فى مصنعه الصغير أسفل منزله بقرية سلامون القماش، 12 عاملا، 8 شباب و4 فتيات، وهو العامل رقم 13، بلغ من العمر زهاء 52عاما، ولازال يعمل بيده، مرجعا ذلك بسبب قل الرزق، فيقول "بعد ما الحال وقف، وأصبحنا لا نستطيع المنافسة بالسوق بسبب الملابس المستوردة من الصين، يرسلوا لنا كنسة القماش والشغل، بسعر زهيد جدا جدا، ومهما الدولة تغلى فى الجمارك، المستوردين بيتحايلو على هذه الرسوم، فلو مثلا فرضت الدولة 100% ضرائب، فمن السهل أن يقوم المستورد بعمل فاتورة من بلد المنشأ الصين بأقل من التكلفة الحقيقة فبدلا من أن يدفع مثلا ألف جنية ضريبة على بضاعة تكلفتها الحقيقة ألف جنية، يقوم بعمل فاتورة مزورة تفيد أن البضاعة ثمنها 100جنية، ويدفع ضرائب بناء على هذا الرقم الوهمي، وتدخل البضاعة السوق بأسعار مخفضة جدا جدا لانستطيع منافستها.
يقول عبد الله، راتب العامل يبلغ 500جنية فى الأسبوع، مسكين، كيف سينفق على بيته وأولاده من هذا المبلغ الضئيل، خاصة وهو يعمل عندى وعند غيرى قرابة 12 ساعة فى اليوم، ولا يوجد متسع لعمل آخر، ولكن ما باليد جيلة، لا أستطيع أن أزيد راتبه، لذلك العمالة قلت للغاية، ومنها لله التكاتك هى السبب، العامل الوقتى بدل ما يشتغل فى مصنع ملابس وصاحب المصنع يقعد يتحكم فيه، بقى بيريح نفسه، ويشترى توك توك ويشتغل عليه، وبيكسب منه أكتر، بالرغم من المعاناة والتحديات اللى بتقابل صناعة التريكو فى سلامون إلا إنها تمر مرور الكرام، ماعدا التوك توك هو الخطر الأكبر والداهم، وفرع المصانع من عمالها.
يعمل عبد الله بيديه فى مصنعه، جنبا إلى جنب مع عماله 12، 8 شباب، و4 فتيات، يعتبرهم جميعا أبنائه، فهم رأس ماله الحقيقي، بالإضافة إلى الماكينات، والتى يقوم هو بصيانتها بنفسه، بعد خبرته عشرات السنين مع الماكينات، منذ كان صغيرا، وتوفيرا أيضا لمستحقات فنى الصيانة، متذكرا عام 2000 والذى كان آخر الأعوام الذهبية بالنسبة لصناعته.
تيشرت عمرو دياب "تملى معاك" كان فتحة خير على القرية
فى عام 2000 أطلق الفنان عمرو دياب، ألبومه الغنائى "تملى معاك" وظهر فى "أفيش" الألبوم مرتديا "تيشرت" تريكو، من اللون الأزرق السماوي، والأبيض والكحلي، وكان فاتحة خير على الصناعة، وانتشر موضة هذا العام.
يقول عبد الله :كانت آخر سنة عملنا فيها شغل حقيقي، وأناشد عمرو دياب إن ينقذ صناعة التريكو ويظهر فى ألبوم جديد لابس تيشرت تريكو عشان إحنا حالنا وقف، وأوشكنا على الإفلاس.
يشتكى عشرات من صغار المصنعين، بقرية سلامون القماش أيضا، من ارتفاع سعر فاتورة الكهرباء.
ويقول "س.د": أنا مضطر أسرق كهرباء، لإن الحكومة بتحاسبنى بشريحة كبار الأعمال ومصانع المستثمرين الكبار، فممكن أدفع ألف جنية كهربا فى الشهر، لماذا وأنا استهلاكى العادى يكلفنى 200جنية فقط، هل هذا هو الدعم الذى تقدمه الحكومة لصغار المصنعين، صناعتى لا يدخل فيها الماء، ومصنعى به دورة مياه صغيرة، أدفع بموجبها 150 جنية شهريا، فاتورة مياه شرب، فى الوقت الذى لا يستهلك فيه منزلى فى العام كله بهذا المبلغ من المياه، بالرغم أن استهلاك المياه فى البيت لا يتوقف، هذا عائق كبير على ظهورنا نناشد السيسى بحله.
ويرى عبد الله فى حديثه لـ "انفراد" إن الحل الوحيد، لإنقاذ صناعة التريكو فى سلامون القماس، هو إيقاف الاستيراد من الخارج، تماما، لإن المصانع المحلية تستطيع أن تغطى احتياجات السوق، وتستطيع أن تصدر من جديد، ولكن فى حال تم إغلاق الاستيراد ، سينعم العمال وأصحاب المصانع بفرص عمل وبيع، وسينعم المواطن بفرص شراء سلعة جيدة، وبسعر رخيص أيضا، ولن يرتفع السعر كثيرا، خاصة وأن فرق 10 جنيهات فى القطعة ما بين المحلى والمستورد يذوب أمام جشع تجار التجزئة، فمن الممكن أن يبيع التيشرت الذى اشتراه جملة بـ 75 جنيه، يبيعه بـ400 جنيه أو 300 جنيه.
بينما يرى "حافظ" الحل، فى أن تعود الدولة لإنتاج خيوط التريكو، وأن تعيد العمل لمصانع وبريات سمنود، وطنطا للغزل والنسيج، وشبين الكوم للغزل والنسيج بالمنوفية، فتوقف هذه المصانع أدى لكساد صناعتهم، وحاجة الدولة لاستيراد الوبريات المضرة والمشعة من تركيا العدو الأكبر للبلاد فى هذا التوقيت، وأنا أرى بضرورة إيقاف التعامل معهم، والحيلولة دون سيطرتهم على صناعة التريكو فى مصر، والتى تعد من الصناعات الاستراتيجية الهامة.