واصلت الجماهير السهر ليلا فى الشوارع والحارات، صممت على تنفيذ إرادتها بخلع «خورشيد باشا» والى مصر، وتنصيب محمد على بدلا منه، تنفيذا لقرارها الذى اتخذته، يوم 13 مايو 1805، فى اجتماع ضم وكلاء الشعب من العلماء ونقباء الصناع، وعقد فى دار المحكمة. كانت الثورة بقيادة عمر مكرم، وفقا لعبدالرحمن الرافعى، فى الجزء الثانى من موسوعته «تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر» مضيفا: «كان قائما على تنظيم حركة المقاومة، يتعهدها ويتولى قيادة الصفوف فيها، فتاريخها مرتبط بجهاده وأعماله».
ينقل «الرافعى» وصف «الجبرتى» فى موسوعته «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار»، تطور الأحداث فى تلك الأيام وكان شاهد عيان عليها، يقول: «فى يوم الأربعاء 22 مايو 1805 ركب عمر مكرم والمشايخ ومعهم جمع كثير من الناس إلى الأزبكية، وبعد ركوبهم، حضر الجمع الكثير من العامة وطوائف الأجناد من سائر النواحى، خاصة الحسينية والعطوف والقرافة والرميلة والحطابة والصليبة، ومعهم الطبول والبنادق حتى غصت بهم الشوارع، وذهبوا إلى الجامع الأزهر ثم رجعوا إلى الأزبكية بيت محمد على».
كان الغرض من هذه الحركات وما تخللها من ذهاب ومجىء هو «إذكاء نار الحماسة فى نفوس الشعب ودعوة طبقاته إلى تأييد الثورة والانضواء تحت لوائها، ولحقت الجموع بالمشايخ، وخرج هؤلاء من عند محمد على»، استمر الحال كذلك إلى ليلة الجمعة، 24 مايو، مثل هذا اليوم، 1805، ففى تلك الليلة، فيما بين المغرب والعشاء، خرج جنود الوالى «خورشيد باشا» من القلعة يريدون الاستيلاء على متاريس الثوار، فتبادل الفريقان إطلاق الرصاص إلى ما بعد العشاء، ثم ارتد جند الوالى على أعقابهم إلى داخل القلعة. ويدلل «الرافعى» على أن هذه الثورة كانت مصرية خالصة بما يذكره الجبرتى: «إن العساكر الأرناؤود من جنود محمد على كانوا فى هذه الملاحم يحاربون جنود الوالى بفتور، مراعين أنهم من أجناسهم لأن غالبهم منهم». يضيف الرافعى: «هذه الشهادة قوية الدلالة على أن الثورة التى انتهت بإجلاء محمد على على عرش مصر، قامت على أكتاف الشعب دون جنود محمد على أنفسهم».
فى مساء الجمعة 24 مايو، نزل «عمر بك» مستشار خورشيد باشا من القلعة «مقر الحكم»، وكان هو الذى يتفاوض نيابة عن «خورشيد» مع قادة الشعب منذ أن بدأت الثورة، وأشاع بين الجماهير أن «خورشيد» عزم على النزول من القلعة والتسليم. يقول الرافعى نقلا عن الجبرتى: «لم يكن ذلك القول إلا خدعة أراد بها أن يفت فى عضد الثوار ويضعف من عزائمهم وليتزود من الذخيرة والميرة، فلما كان يوم الاثنين 27 مايو تجدد القتال، وشدد عمر مكرم فى حصار القلعة»، يصف الجبرتى ما رآه: «ركب السيد عمر مكرم وصحبته الوجاقلية وأمامه الناس بالأسلحة والعدد والأجناد، وأهل خان الخليلى والمغاربة شىء كثير جدا، ومعهم بيارق ولهم جلبة وازدحام، بحيث يكون أولهم بالموسكى وآخرهم جهة الأزهر».
استمرت الأوضاع على سخونتها حتى أذعن «خورشيد باشا» وسلم القلعة يوم 5 أغسطس 1805، ثم رحل عن مصر، ووفقا للرافعى: «كان آخر والى عثمانى يحكم مصر بإرادة الآستانة وأوامرها»، وفى هذه الثورة تظهر شخصية «حجاج الخضرى» وهو شيخ طائفة الخضرية فى ذلك العصر، وإليه تنسب البوابة المعروفة ببوابة حجاج، وتسمى أيضا بوابة الخلاء قبلى مسجد السيدة عائشة بشارع «باب القرافة»، وينقل الرافعى وصف الجبرتى له:
«كان مشهورا بالإقدام والشجاعة، طويل القامة، عظيم الهمة، صاحب صولة وكلمة ومكارم أخلاق بتلك النواحى، وهو الذى بنى البوابة بآخر الرميلة عند عرصة الغلة أيام الثورة، هو ومن معه من أهل الرميلة خرجوا ضد على باشا السلحدار وجنوده الذين حضروا من المنيا لنجدة خورشيد، وأخذوا منهم 60 جملا كانت تحمل الذخيرة إلى القلعة، وقتلوا شخصين وقبضوا على ثلاثة وحضروا بهم وبرؤوس المقتولين إلى بيت عمر مكرم، فأرسلهم إلى محمد على، فأمر بقتل الآخرين، وعقب رحيل خورشيد، خرج من القاهرة خوفا على نفسه من اعتداء العسكر الأرناؤود»، يضيف الجبرتى: «ذهب الخضرى إلى بلده المنوات، ثم عاد وأرسل إلى عمر مكرم، فكتب له أمانا من الباشا محمد على، فحضر بذلك الأمان وقابل الباشا، وخلع عليه ونادوا له بأنه على ما هو عليه فى حرفته وصناعته ووجاهته بين أقرانه، فصار يمشى فى المدينة وبصحبته عسكرى ملازم له، ثم اختفى بعد ذلك بسبب ما داخله من الوهم والخوف من العسكر، والظاهر أنه اعتقد أنهم ينوون قتله غيلة».