كان الوقت حوالى منتصف ليل27 مايو، مثل هذا اليوم، 1832، حين لف «عبدالله باشا» حاكم عكا، منديلا حول رقبته علامة على الاستسلام، ولما هم بالركوع بين يدى «إبراهيم باشا»، رفعه إبراهيم بسرعة، قائلا له: «لا ألومك على محاربتى لأننا سواء، خطؤك الوحيد أنك ظننت أنك قادر على التجرؤ على محمد على»، وفقا لما يذكره جيلبرت سينويه فى كتابه «الفرعون الأخير»، ترجمة عبدالسلام المودنى.
كان استسلام عبدالله، بعد حصار إبراهيم وجيشه للمدينة، دام ستة أشهر، بدأت فى 26 نوفمبر 1831، وساعده فى ذلك العرب والدروز والموارنة، الذين أتوا إليه طائعين، وفقا لتأكيد عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «عصر محمد على»، وتصور عبدالله باشا، خلال فترة الحصار، أن هزيمته غير ممكنة، ووصل غروره درجة قوله: «إذا كان نابليون الأول أعظم قواد العالم عجز عن امتلاكها، فهل يقدر محمد على باشا عليها»، حسبما تذكر الدكتورة لطيفة سالم، فى كتابها «الحكم المصرى فى الشام».
تذكر «سالم» جملة أسباب لقيام محمد على بضم عكا والشام إليه، من بينها قيام عبدالله باشا، حاكم عكا، بالمساعدة فى تهريب التجارة من الجمارك المصرية وتحويلها عن طريق سيناء، وابتزاز التجار المصريين، بالإضافة إلى قيامه بإيواء المصريين الهاربين من سياسة محمد على الداخلية، تقول: «هناك ستة آلاف من فلاحى الشرقية تسحبوا وعبروا الحدود إلى القدس ونابلس وغزة للتخلص من الأنظمة، التى فرضها الوالى عليهم والخاصة بالسخرة والضرائب والتجنيد، واستشاط محمد على غيظا من تلك التصرفات، فأعطى الأمر لابنه بإرسال القوات إلى جهات، قطية، مغارة، عجرون، وذلك لإقامة حد يمنع فرار المصريين إلى هذه الجهة، وبعث إلى والى صيدا يبين له أهمية وضرورة العمل على إعادة الفلاحين لقراهم، ويطلب التنبيه على المشايخ بتلك المناطق بعد احتجاز أى منهم، وبأنه حال تجاسرهم على حجز المذكورين، يضطر إلى تعيين مخصوصين لجلبهم من الفلاحين المصريين المذكورين وتأديبهم، وطلب الوعد بعدم تكرار مثل ذلك الأمر».
تؤكد «سالم»، أن جواب عبدالله باشا جاء مخالفا لمطلب محمد على، حيث قال: إن المصريين من الرعايا العثمانيين، ولهم حق الإقامة فى الأرض العثمانية التى هى مفتوحة للجميع، وعليه أن يستصدر أمرا من السلطان بشأن رجوع الفلاحين إذا أراد عودتهم، فاستشاط محمد على غضبا، وأعلن أنه سيعيد هؤلاء الفلاحين جميعا ومعهم عبدالله باشا، وهكذا تعمق الجفاء بين الطرفين، وبدأ محمد على الطريق لكسر شوكة عبدالله باشا، وتحقيق رغبته فى احتواء الشام، لكن مرت ستة أشهر على حصار عكا دون أن يستسلم عبدالله، ويذكر الدكتور عبدالرحمن زكى، فى كتابه «التاريخ الحربى لعصر محمد على الكبير» أن الخطة التى انتهجها الباب العالى كان لها أثرها، يقول: «كان السلطان يصب على إبراهيم اللعنات، ويسلط عليه سيلا من فتاوى شيخ الإسلام، فمن ذلك أنه أصدر خطا شريفا يرمى فيه مصر بالمروق، ثم تبعه فى 4 مايو 1832 بفرمان شاهانى بتجريد محمد على وإبراهيم وإباحة دمائهما، وهذا له أثره على الروح المعنوية للمدافعين، وكان السلطان أعلن الحرب رسميا على محمد على فى 32 إبريل 1832».
يذكر «زكى» أنه فى فجر 27 مايو 1832، عقب شروق الشمس، أمر القائد العام بالهجوم، واستمر القتال طيلة اليوم، وفى المساء سقطت عكا فى قبضة المصريين، ويذكر الرافعى، أن الجيش المصرى خسر نحو أربعة آلاف وخمسمائة جندى، وفى دراما هذه الحرب، يستوقفنا «سينويه» أمام العديد منها، من بينها أنه بوصول الجيش المصرى إلى قلب المدينة، أصيب السكان بالإحباط، ففرضوا على عبدالله باشا أن يلقى السلاح، ويرسل إلى إبراهيم بعثة يطلب من خلالها الرحمة منه، ومما يروى أنه بعد الاستسلام، أمضى إبراهيم وعبدالله جزءا من الليل يتحدثان فى خيمة صيفية خارج المدينة على طرف قنطرة تخترق السهل، ولما أذن إبراهيم لعبدالله بأن يغادر المكان قائلا: «ستنعم الليلة بنوم هادئ»، رد عليه عبدالله بسرعة: «كما نمت دوما، لا تعاملنى كامرأة، فالطريقة التى دافعت بها عن نفسى تبرهن عكس ذلك، خطئى أنى وثقت بكلام الباب العالى «السلطان العثمانى»، إلا أنى أعلم الآن أن السلطان ليس بأشرف من بنات الليل، ولو أنى علمت ذلك قبل الآن لاتخذت تدابير أخرى، وأؤكد لك بأنى ما كنت لأكون بين يديك اليوم».
يؤكد «سيونيه» أن إبراهيم أرسل عبدالله برفقة نسائه وبعض أفراد عائلته على متن سفينة مصرية إلى الإسكندرية، ومما يحكى أنه قام بتقبيل طرف ثوب محمد على قائلا: «ليكن العفو الذى يأتينى منك عفو ملك وليس عفو وزير»، وفيما بعد سمح له بالانتقال مع عائلته إلى الحجاز، حيث سيموت هناك فى المدينة المنورة عام 1842.