ترتفع وتيرة ظاهرة توظيف الأموال المعروفة إعلاميًا باسم "المستريح" مع زيادة أسعار الفائدة فى البنوك، وبحث المصريون عن أوعية ادخارية تحقق لهم عائدًا مناسبًا وفى الوقت نفسه يحمى قيمة مدخراتهم، ورغم التحذيرات المتتالية من هذه الظاهرة إلا أن ضحاياها يواصلون الزيادة بشكل لافت، لرغبة العديد من المواطنين عدم الاستثمار فى شراء الشهادات البنكية لأسباب دينية، وإغراءات شركات توظيف الأموال بتحقيق عائد أعلى.
وعرفت شركات توظيف الأموال فى مصر منذ العقد الثامن من القرن الماضى، ورغم الكم الكبير من ضحايا هذه الشركات وتقنين الحكومة أوضاعها بإنشاء شركات الاستثمار المباشر إلا أن هذا الحل لم يعد مجديًا، وأصبح السبيل لذلك هو استحداث أداة تمويل تحقق عائد للمواطنين وفى الوقت نفسه توفر تمويلا لمشروعات الدولة تسهم فى استدامة معدل النمو، خاصة فى ظل ارتفاع أعباء تكلفة التمويل عقب زيادة أسعار الفائدة.
استحداث التوريق
استحدثت الهيئة العامة للرقابة المالية، أداة توريق الحقوق المالية المستقبلية، وهى أداة تمويلية غير تقليدية جديدة بالنسبة للسوق المصرى، رغم أنها مطبقة عالميًا فى معظم دول العالم كالولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا وألمانيا والصين وإندونيسيا والمكسيك والإمارات العربية المتحدة دول غرب أفريقيا، وتسهم هذه الأداة فى تيسير إقامة واستمرارية تقديم خدمات المرافق العامة وغيرها، وتتلاءم مع طبيعة أنشطة المرافق العامة والخدمات العامة التى تقدم لجمهور المواطنين.
وتسمح هذه الأداة للجهات الحكومية القائمة على مشروعات المرافق العامة بالحصول على التمويل اللازم لها بضمان تدفقاتها النقدية المستقبلية الناتجة عن تقديمها لهذه الخدمات العامة لكى يتسنى تقديم هذه الخدمات بكفاءة وجودة وضمان استمراريتها فى الوفاء بمتطلبات أوجه الاستخدام، وهو الأمر الذى يتطلب أن تتوافر لها السيولة الكافية التى تسمح لها بتنمية وتطوير أنشطتها على نحو يمكنها من المنافسة ومواصلة تقديم خدماتها ومزاولة أنشطتها بالشكل الأمثل.
ويمكن لآلية التوريق للحقوب المالية المستقبلية، أن تعد الذراع الرئيسى لتمويل جهات المال العام والشركات الخاصة التى تقوم بتقديم خدمات المرافق العامة فى الدول المتقدمة وأيضًا لتطوير وتنمية الأسواق التى تعتمد فى مصادر أموالها على حقوق مالية يتم تحصيلها بشكل دورى من العملاء، خاصة وأن هذه الخدمات والمشروعات قد أصبحت من متطلبات الحياة اليومية المعتادة بما يؤكد استمرارية إقبال المواطنين.
وصدق الرئيس عبد الفتاح السيسى، فى مارس الماضى، على تعديلات قانون سوق رأس المال، والتى تشمل طرح آلية توريق الحقوق المالية المستقبلية كأداة لزيادة رأس المال، يختلف توريق الحقوق المالية المستقبلية عن التوريق التقليدى من حيث أنه يسمح بتوريق المدفوعات التى لم تتضمنها الميزانية العمومية للشركة بعد.
وفى التوريق التقليدى، يمكن للشركات بيع سندات بضمان تعاقدات تمت بالفعل ستدر للشركة إيرادات على أقساط، كعقود التمويل العقارى والتأجير التمويلى والتمويل الاستهلاكى، أما فى الحقوق المالية المستقبلية يمكن للشركة إصدار سندات بضمان إيرادات مستقبلية متوقعة بناء على نشاطها السابق، فعلى سبيل المثال شركات الهاتف المحمول يمكنها توقع تدفقات نقدية معينة من فواتير العملاء بعد عام أو عامين من الآن، وهكذا تمنح تلك الآلية الشركات إمكانية الحصول على السيولة دون الحاجة إلى محفظة كبيرة من الذمم المدينة، ويتحول الدخل المستقبلى، سواء من فواتير الهاتف أو مدفوعات المرافق أو المصاريف الدراسية أو الإيجارات، إلى أوراق مالية تبيعها الشركة لتحصل على سيولة حاضرة اليوم، مما يفتح الباب أمام شركات جديدة من القطاعين العام والخاص مثل مقدمى المرافق وشركات الرعاية الصحية وشركات الاتصالات والمؤسسات التعليمية لإصدار تلك الأوراق المالية.
أهمية التوريق للحكومة
بفضل الإصلاحات التى نفذتها القيادة السياسية منذ عام 2016 لتسوية الاختلالات الاقتصادية الكلية، شهدت مصر فى السنوات الأخيرة نموًا اقتصاديًا واضحًا ملموسًا فى كافة القطاعات، حيث نفذت العديد من المشروعات التى تقدم خدمات عامة للجمهور كتطوير شبكة الطرق والكبارى، وتعميم استفادة كافة المواطنين من خدمات المرافق العامة الأخرى بشكل كفء فى الكهرباء والغاز والمياه والاتصالات والنقل والصحة والتعليم والإسكان والتحول الرقمى، وغيرها من الخدمات الأخرى.
ورغم أن مصر كانت من البلدان القليلة الصاعدة التى حققت معدلًا نموًا إيجابيًا فى آخر عامين رغم الآثار السلبية لجائحة كوفيد-19، إلا أن أبرز التحديات التى تواجه الاقتصاد المصرى فى المرحلة المقبلة تتمثل فى أولًا ارتفاع نسبة الدين العام الخارجى بسبب الزيادة الكبيرة فى حجم الاستثمارات الحكومية والإنفاق على البنية التحتية، ثانيًا احتياجات التمويل الإجمالية أى المبالغ التى تحتاج الحكومة فى مصر إصدارها كل عام لتجديد القروض التى يحل أجل استحقاقها أو تمويل الدين الجديد على حد سواء، من أجل التوسع فى المشروعات الجديدة أو صيانة وتجديد القائم منها.
وبسبب هذه التحديات، فأن الاقتصاد المصرى معرض للصدمات الخارجية، كارتفاع تكاليف الاقتراض بالمستويات العالمية، مع سحب الاقتصادات المتقدمة إجراءاتها لتحفيز النشاط الاقتصادى بالتدريج، وبالتالى سوف يكون من الضرورى فى المرحلة القادمة، الاستمرار فى الحفاظ على الاستقرار الاقتصادى ومعدلات النمو وتخفيض مستوى الدين العام من خلال التركيز على الإصلاحات الهيكلية لتشجيع النمو بالشراكة مع القطاع الخاص، وانتهاج سياسات من شأنها زيادة الإيرادات لتمويل السلع العامة الحيوية بما فيها الصحة والتعليم وشبكات الأمان الاجتماعى، وتعزيز الحوكمة والشفافية، ومواصلة تطوير الأسواق المالية.