كانت الساعة الحادية عشرة صباح 2 يونيو، مثل هذا اليوم، 1926، حين استدعى «جورج لويد» المندوب السامى البريطانى إلى داره، أحمد زيور باشا رئيس مجلس الوزراء، وسمله تبليغ الحكومة البريطانية برفض الأحكام فى قضية «الاغتيالات السياسية» يوم 25 مايو 1926، حسبما يذكر الكاتب الصحفى مصطفى أمين فى كتابه «الكتاب الممنوع، أسرار ثورة 1919»، مضيفا: «قال زيور باشا للمندوب السامى إنه سيقدم استقالته بسبب ظهور نتيجة الانتخابات وفوز سعد زغلول فيها، ولهذا فإنه شبه مستقيل، ومع ذلك فهو يقبل هذا التبليغ ويوافق عليه».
بعد تبليغ «زيور باشا» اتصل «لويد» تليفونيا بالملك فؤاد، وقابله بقصر عابدين فى الساعة الثانية عشرة ظهرا، وأعطاه صورة التبليغ البريطانى.. يذكر «أمين»: «قال لورد لويد للملك فؤاد إن ملك مصر مسؤول عن تنفيذ هذا التبليغ شخصيا، بمعنى أنه لا يجوز له أن يوقع على أى مرسوم أو قرار فيه اسم أحمد ماهر ولا حسن كامل الشيشينى ولا الحاج أحمد جادالله ولا محمود عثمان مصطفى، لأن الحكومة البريطانية تعتبرهم مجرمين، ثم أضاف لويد: «وكذلك النقراشى، فإن السلطات البريطانية فى القاهرة، ترى أن عدم كفاية الأدلة لا يعنى براءته، وأن الحكومة البريطانية لا تزال تعتبر قضية الاغتيالات مفتوحة، والسلطات البريطانية ستستمر فى البحث عن أدلة جديدة لتقديم المتهمين من جديد إلى محكمة الجنايات، وقال الملك فؤاد، إنه يتعهد بأن ينفذ كل هذا».
لم يكتف المندوب السامى البريطانى بأوامره للملك فؤاد، وإنما وحسب مصطفى أمين: «فى نفس اليوم صدر الأمر إلى البوارج البريطانية فى مالطة بأن تستعد للتحرك إلى مصر، وفى نفس اليوم أيضا خرج الجيش البريطانى إلى شوارع القاهرة، ليقوم باستعراض اشتركت فيه المدافع والسيارات المصفحة، وقامت الطائرات الحربية البريطانية بالطيران ليلا فوق القاهرة على ارتفاع منخفض فتثير الفزع بين المساكن والبيوت».
أكد كل هذا الغضب أن الاستقلال الذى منحته بريطانيا لمصر فى «تصريح 28 فبراير 1922» كان قشريا؟، أما قضية «الاغتيالات السياسية» التى كشفت ذلك، فيذكر الكاتب الصحفى جمال بدوى فى كتابه «المصور شاهد على الحياة المصرية»، أنها تتعلق بالحوادث التى وقعت فى غضون ثورة 1919 وما بعدها، وراح ضحيتها عدد من كبار الموظفين الإنجليز ووزراء مصريون قبلوا التعاون مع سلطات الاحتلال، ولم تتمكن أى جهة أمنية من التوصل إلى الجماعات السرية التى كانت تقوم بهذه الأعمال، إلى أن وقعت جريمة مقتل «السير لى ستاك» سردار الجيش المصرى وحاكم السودان فى 19 نوفمبر 1924، فكشفت عن هذا الجانب الخفى من التنظيمات الفدائية».. يضيف «بدوى»: «كان الظن أن صدور الأحكام بإعدام 7 من المتهمين بقتل السردار، أسدل الستار نهائيا على الحادث، وظهرت منه براءة سعد زغلول وأنصاره من تهمة الضلوع فى الجريمة، ولكن السلطات البريطانية كان لها رأى آخر وهو وجود صلة بين القتلة وبين بعض أقطاب الوفد خاصة أحمد ماهر ومحمود فهمى النقراشى، وأن هذه الصلة تتجسد فى شخص شفيق منصور- الوفدى المشهور- فبعد حكم الإعدام عليه فى مقتل السردار، انتابته حالة ضعف وتمزق، فكتب اعترافاته عن كل الحوادث التى سبقت حادثة السردار، وتبين منها وجود أحمد ماهر والنقراشى وحسن كامل الشيشينى على رأس جهاز الاغتيالات الذى كان يخطط لهذه الحوادث «أثناء ثورة 1919»، وذكرها شفيق منصور بالتفصيل».
يضيف بدوى: «أما المصدر الثانى لهذه المعلومات الجديدة فهو اعترافات الجاسوس نجيب الهلباوى، الذى سبق له المشاركة فى بعض هذه الحوادث، وتجمعت من كل هذه المعلومات خيوط قضية جديدة، وجدت فيها السلطات البريطانية فرصة لتقديم «ماهر والنقراشى والشيشينى» وبعض قيادات العمال إلى محكمة الجنايات».
تألفت هيئة محكمة الجنايات التى نظرت القضية من الإنجليزى «مستر كرشو»، والمستشارين «على بك سالم»، و«كامل إبراهيم بك»، ثم «على عزت بك» بدلا من «على بك سالم»، وفى 25 مايو 1926 قضت المحكمة ببراءة ماهر، والنقراشى وزملائهما باستثناء الحكم بإعدام محمد فهمى على «طوخ - قليوبية».. يذكر مصطفى أمين، أنه بعد 24 ساعة من صدور الحكم ظهر أن القاضى «كرشو»، كان يتداول فى الصباح فى المحكمة مع زميليه المستشارين المصريين، وفى المساء فى دار المندوب السامى البريطانى مع لورد «لويد»، ومع الحكمدار رسل باشا وآخرين، وكان يحاول إرغام زميليه المستشارين المصريين على أن يحكما بإعدام أحمد ماهر، ومكث خمسة أيام يحاول أن يقنعهما بلطف، ثم يهددهما، وصمد المستشاران وأصرا على البراءة.
فى 2 يونيو 1926، استقال «كرشو» من خدماته للحكومة المصرية، وفى نفس اليوم توجه المندوب السامى البريطانى لمقابلة الملك فؤاد وأبلغه رفض الحكم، وتهديده، ووفقا لبدوى: «رد الملك: تمام يا أفندم».