بلغت مناقشة مصطفى الحفناوى، فى رسالته للدكتوراه بكلية الحقوق جامعة باريس، عن «قناة السويس ومشكلاتها المعاصرة» يوم 5 يونيو 1951، قمة الإثارة، أعلن رئيس اللجنة الدكتور «جلبرت جيدل» رفضه اتهام «الحفناوى» لديلسيبس بأنه «أكبر آفاق ظهر فى القرن التاسع عشر»، حسبما يذكر الحفناوى فى مذكراته «مصطفى الحفناوى وخلفيات تأميم قناة السويس»، وفى الجزء الثالث من رسالته التى طبعتها «الهيئة المصرية العامة للكتاب» فى أربعة أجزاء عام 2015، بنفس عنوانها «قناة السويس ومشكلاتها المعاصرة»، وتعد إحدى الوثائق المهمة التى اعتمد عليها جمال عبدالناصر أثناء تجهيزه لقرار تأميم القناة، وكلف صاحبها «مصطفى الحفناوى» بإعداد الشق القانونى لقرار التأميم.. «راجع، ذات يوم، 5 يونيو 2022».
ارتفعت سخونة المناقشة مع قضية «مصير شركة قناة السويس».. يذكر الحفناوى: «بينت بطلان عقد الالتزام وانعدامه، وبينت فضائح الشركة ومخالفاتها وجرائمها التى لا تحصى، مستندًا إلى ملفات الشركة التى ذكرت أرقامها فى هوامش الرسالة، ولم يطق «جيدل» الذى بلغ القمة فى عمله، أن يقرأ دعوتى لتصفية الشركة، واتخاذ إجراءات فورية لذلك فى المدة الباقية حتى يحين يوم 16 نوفمبر 1968، واعتبار هذه المدة مرحلة انتقال إلى آخر ما ذكرته فى رسالتى بهذا الخصوص».
يضيف «الحفناوى»: «أعلن جيدل أنه وزملاءه لا يقبلون الحلول التى عرضتها، وطلبوا منى أن أقترح حلا آخر فى الحال، وأن أحاول التوفيق بين مصالح مصر التى أدافع عنها وبين بقاء الشركة واستمرارها، قلت على الفور إنه ليس عندى حل آخر، رد «جيدل»: «إن قريحة العالم الشاب الذى كتب هذه الرسالة، لا تعجز عن اقتراح حل آخر معتدل تقبله الهيئة».. وشفع ذلك بتهديد فى لغة مهذبة قائلا: «إنك باقتراحك الحالى ستعرض وطنك لمتاعب جسام، ذلك أن الدول صاحبة المصالح لن تترككم تسيرون فى الطريق الذى تدعو إليه»، فأعلنت للهيئة الموقرة إصرارى قائلا: يبدو أنكم أخطأتم فهمى وتصورتم أنى مجرد طالب يبحث هنا عن درجة علمية، درجة دكتور فى القانون، فما أنا بحاجة إليها، إننى فى مصر محام لدى محكمة النقض، وهنا فى باريس مستشار فى السفارة المصرية، ومعنى ذلك أنى وصلت فى سلم عملى إلى آخر المراحل فلا حاجة بى للقب دكتور فى القانون، أنا هنا محام يبسط للعالم كله من منبر عالمى حر، منبر جامعة باريس، قضية بلاده العادلة، ويعرض الحلول التى يراها، فإذا استعصى هذا المنبر فإنى سأطوى الملف، وأترك باريس، وأذهب إلى بلد آخر فيه منابر حرة لاستعمالها».
يتذكر الحفناوى: «هنا اتقدت نيران الكبرياء الفرنسى، والطموح الفرنسى، والحساسية المعروفة، ودوى صوت «جيدل»، وهو ينادى قائلا: إن جامعة باريس كانت دائمًا وأبدًا منبر الأحرار الذين يعرضون منه قضايا الحرية، ونحن نعتز بهذا، ونرحب بك اليوم، كما رحبنا بغيرك، وسنرحب دائمًا بطلاب الحرية والاستقلال».. يضيف: «حوالى الساعة السادسة مساء، وبعد مناقشة استمرت خمس ساعات رفعت الجلسة للمداولة، وبعدها ظهر العلماء واقفين، وأعلن جيدل بصوته القوى قرار الهيئة بمنحى الدكتوراه بأعلى المراتب».. يؤكد الحفناوى، أن صحيفة الأهرام نشرت فى حينها الوصف الكامل للمناقشة، وفى أيام متتالية بعنوان «رسائل العلم فى خدمة السياسة، ونشرت صحيفة «لوفيجارو» الباريسية الصباحية، وبقية الصحف الكبرى فى باريس النبأ بإيجاز صباح 6 يونيو، مثل هذا اليوم، 1951، تحت عنوان «دبلوماسى مصرى تستقبله جامعة باريس دكتورا فى القانون بتقدير رفيع فى موضوع «قناة السويس ومشكلاتها المعاصرة».
يكشف «الحفناوى» رد فعل الشركة، يذكر أن رئيس الشركة «شارل رو» اتصل به فى الفندق ليتأكد إن كان هو بالفعل صاحب الاسم الذى نشرته الصحف وحصل على الدكتوراه، فأجابه «الحفناوى»: «لا يوجد اثنان بهذا الاسم فى سفارة مصر بباريس»، وبعد مناقشة بين الاثنين دعاه شارل إلى زيارتهم فى مقر الشركة، وكانت مقابلة عاصفة، فيها محاولات ترغيب وترهيب للحفناوى حتى لا يحول موضوع رسالته إلى قضية رأى عام، وكانت ردود الحفناوى صلبة، قوية، رافضة لأى نوع من الإغراءات، وكان ختام هذه المقابلة نبوءة لما سيحدث فى المستقبل.. يذكر الحفناوى: «قال شارل رو: أنا أبلغ اثنين وسبعين عاما، ولن يمتد بى العمر إلى 16 نوفمبر 1968، هذا اليوم الذى تحلم به.. رد الحفناوى: ومن قال لك إننا سننتظر هذا اليوم، لقد صبرنا لثمانين عامًا مضت، ولن نصبر أكثر من ذلك، ستتركون القناة حال حياتك، وأنت رئيس لهذه الشركة، وسترى بعينيك قناة مصرية يديرها المصريون، ملاكها الوحيدون».. يضيف «الحفناوى»: «شاء الله سبحانه تعالى أن يوفق عبده وابن عبده المرحوم جمال عبدالناصر لتأميم شركة قناة السويس فى 26 يوليو سنة 1956، واستعادت مصر قناة السويس مع زوال الاستعمار».