بذل إسماعيل باشا المال بسخاء على ضفاف البوسفور، ليحصل على فرمان جديد يخوله لقب «خديو» هو وخلفاؤه، بعد أن كان واليا، فتحقق له مسعاه فى 8 يونيو، مثل هذا اليوم، 1867، حسبما يذكر عبدالرحمن الرافعى فى الجزء الأول من كتابه «عصر إسماعيل»، مضيفا:
«ارتقى صاحب العرش بهذا اللقب السامى إلى مرتبة تقرب من مراتب الملوك والسلاطين، وأقر هذا الفرمان حق الحكومة المصرية واستقلالها فى إدارة شؤونها الداخلية والمالية، وحقها فى عقد المعاهدات الخاصة بالبريد والجمارك، ومرور البضائع والركاب فى داخلية البلاد وشؤون الضبط للجاليات».
سبق ذلك، أن حصل إسماعيل فى 27 مايو 1866 على فرمان بتغيير نظام توارث العرش، وفقا لما يذكره الرافعى، قائلا: «كان النظام القديم الذى فرضه فرمان 1841 يقضى بأن يؤول عرش مصر إلى أكبر أفراد الأسرة العلوية سنا، كالنظام المتبع فى تركيا، فسعى إسماعيل جهده فى أن يؤول العرش إلى أكبر أنجاله، ونجح فى مسعاه بفضل الأموال الطائلة التى دفعها، وبلغت ثلاثة ملايين من الجنيهات، وزيادة الجزية السنوية من 400 ألف جنيه عثمانى إلى 750 ألفا، أى إلى ما يقرب من الضعف، وهى زيادة فادحة تحملتها مصر باستمرار.
كان المسعى التالى لإسماعيل هو حصوله على لقب «الخديو»، لكن ذلك أخذ وقتا ومفاوضات وصعوبات يذكرها «إلياس الأيوبى» فى الجزء الأول من مجلده «تاريخ مصر فى عهد الخديو إسماعيل»، قائلا: إن إسماعيل طمح فى الحصول على لقب يشعر معه بأنه إن لم يكن فى مصاف الإمبراطور والسلاطين والملوك، فلا يقل عنهم كثيرا، فشرع يخابر الآستانة بوسائله المعتادة فى أمر منحه ذلك اللقب، وأقبل ينفق المال عن سعة، ويكثر من الجود والهدايا النفيسة إلى السلطان ووزرائه والمقتربين لديه، مجتهدا فى استصدار يخوله التلقيب بلقب «العزيز».. يضيف «الأيوبى»، أن المخابرات دارت بشأن لقب «العزيز»، واستمرت مدة بين أخذ ورد، ولكنها لاقت فى سبيلها عقبتين، لم يمكن التغلب عليهما،
العقبة الأولى، أن لقب «العزيز» يخص سيدنا «يوسف» عليه السلام دون غيره، وأن ما يخص نبى لا يصلح إطلاقا لفرد من الأفراد مهما كانت درجته رفيعة، والعقبة الثانية، أن اسم السلطان العثمانى «عبدالعزيز»، فلو دعى إسماعيل «العزيز» لكان السلطان عبده، أو لتبادر إلى أذهان السذج أنه عبده، فاستبعد لقب «العزيز»، لا سيما وأنه اسم من أسماء الله الحسنى، وشرع فى البحث عن غيره، يضيف الأيوبى، أنه جرت العادة منذ أيام محمد على باشا بتسمية الديوان المصرى الأعلى، أى الديوان المحيط بشخص الوالى مباشرة «بالديوان الخديوى»، كما أن الولاة أنفسهم بحكم تلك العادة، كانوا يدعون أحيانا «خديويين»، وبعد مناقشات ومباحثات كتابية وشفهية كثيرة بين إسماعيل والآستانة، اتفقت الآراء نهائيا على أن تعطى صيغة رسمية لتلك العادة، وأن يكون لقب «خديو» خصيصا من ذلك الحين فصاعدا بإسماعيل وخلفائه على العرش المصرى، وصدر بذلك فرمان فى 8 يونيو سنة 1867.
يتتبع الدكتور يونان لبيب رزق قصة ألقاب حكام أسرة محمد على وهى، باشا، خديو، سلطان، ملك، ويذكر فى كتابه «فؤاد الأول.. المعلوم والمجهول»، أن إسماعيل الذى حكم مصر من 1863 إلى 1879، حاول أن يجعل لقب الحاكم من أبناء الأسرة متفقا مع وضعية مصر المغايرة لوضع الولايات الأخرى فى الدولة العثمانية بعد حروب الشام، خلال ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وهو ما نجح فيه بعد أربع سنوات من اعتلائه كرسى الحكم فى مصر، حين حصل من الباب العالى على حق التلقيب بالخديو ضمن مزايا عديدة نالها من السلطان العثمانى، الأمر الذى أصبحت معه مصر دولة شبه مستقلة.
يضيف: «صحيح أن هذا الحاكم الأشهر فى التاريخ المصرى دفع «دم قلبه» أو بالأحرى «دم قلب مصر» للحصول على تلك المزايا، غير أن ما فعله، وإن زاد من حجم الديون، وقاد فى النهاية إلى زيادة التدخل الأجنبى وخلعه عن مسند الخديوية، فقد أدى إلى تقطيع كثير من روابط التبعية بين بلاده وبين الدولة العلية، الأمر الذى قاد صاحبنا إلى أن يتصرف فى كثير من الأمور كحاكم مستقل»، يعطى «رزق» مثلا على تصرف إسماعيل بوصفه حاكما مستقلا، قائلا: «كان أول من طبق فكرة البلاط، التى كانت قد عرفتها أوروبا مع قيام الممالك القومية، خلال القرن التاسع عشر، والتى بلغت أوجها فى عصر الملك لويس الرابع عشر فى فرنسا 1643- 1715، وهو ما بدأ إسماعيل فى القيام به بعد بناء عدد من القصور، وانتقاله بعد فترة غير طويلة من القلعة، من حيث كان يحكم الباشوات إلى سراى عابدين، التى أصبحت مقرا للحكم وموضعا للمناسبات الاجتماعية، ومؤسسة لها موظفوها الذين عرفوا برجال القصر».