موجة عاتية فاجأت الجميع، حتى من كانوا يعتلونها أو يُجدّفون فيها. تبدّلت الأمور سريعًا وأطاحت التقلُّبات الحادّة بكل شىء. عاشت مصر شهورًا صعبة ومُضنية بين يناير 2011 ويونيو 2012، ثمّ تعاظمت المصاعب والفواتير خلال سنة كاملة قضاها الإخوان فى السلطة. بحلول يونيو 2013 وصلنا ووصلت الدولة - من زاوية الكيان المؤسسى وأعراف الإدارة والسياسة، أو من حيث كونها هندسة اجتماعية ترعى التنوع العريض وتضبط توازنه - إلى نقطة القاع فى كل شىء، وكان التغيير ضرورةً لا مفرَّ منها مهما بلغت التكلفة. تلك الصورة الموجزة لا تصحُّ قراءة ماضى الوطن القريب، ولا واقعه، ولا ما نأمله فى مستقبله، من دون التوقف أمامها طويلاً بالفحص والبحث والتحرير؛ إذ تتأسَّس عليها كثير من الإشكالات التى عشناها وما نزال، وتتجلّى بالقياس إليها مفازةُ ما أحرزناه معًا، على الأقل من زاوية النجاة الشخصية والعامة، والإفلات ببلد كامل إلى مرفأ آمنٍ بعدما كان على وشك الضياع!
شاخت مصر طوال أكثر من ثلاثين سنة كانت حركتها أضعف من حاجة جسدها الضخم، وأبطأ من خصوبة سُكَّانها ونهمهم المُشتعل للتكاثر. وزادت الشيخوخة واستفحلت آثارُها فى سنوات ما بعد ثورة يناير، فضلاً عن خدوش وندبات تركتها الوقائع على ملامحها وروحها. كُنّا فى حاجةٍ ماسّة إلى استعادة التوازن أوّلاً، ثم ترويض مخاوفنا، وإعادة تربية الثقة فى النفس على تُربة بيضاء وتجربة صافية من الشوائب التى لوّثت أيامنَا السابقة. فى المُقابل كانت لدينا طبقة سياسية مُحمّلة بميراث الماضى، انضمّت إليها طبقات ممّن لم يُحسنوا صُنعًا فى مفرزة التغيير وقتها. بين الإخوان ومن والاهم، وآخرين شاركوهم أو خدموهم أو عملوا معهم وارتزقوا لحسابهم، لم يكن هناك رهانٌ إلا على مأسسة المشهد استنادًا إلى مُحدِّدات وطنية وقيميّة وتنظيميّة راسخة، لا تنقاد بقاطرة المصالح الضيِّقة ولا يقودها هوى أفراد يُخفون أكثر ممّا يُعلنون.
وفق تلك المُعادلة تركَّزت الثقة بكاملها فى المؤسَّسة العسكرية، ودعاها ملايين المُحتجين فى شوارع 30 يونيو إلى الشراكة والدعم والمُساندة وحماية مطالبهم. بعيدًا من أيّة تنظيرات يُمكن أن ينتجها الساسة والمؤدلجون، اختار الناس من يضعون ثقتهم فيه، وكان اختيارًا منطقيًّا مُستندًا إلى حاضر وتاريخ. ومن تلك المعادلة نفسها خرج الفريق عبد الفتاح السيسى وقتها - المشير لاحقًا ورئيس الجمهورية حاليًا - إلى المجال العام مُلبّيًا مطلب الناس ومُنحازًا لإرادتهم. كان هذا المشهد انتصارًا مُركبًّا، من زاوية أنه قرار شعبى عام، ثم إعادة اعتبار لمؤسَّسة تحمَّلت كثيرًا طوال شهور الاحتدام وطالتها سهامٌ وحروب مُوجّهة، ضلّلت بعض الناس أو غيّرت فى مسارات الوقائع والأحداث، وأخيرًا كان المشهد إفرازًا لقيادة من بين المصريين، اصطفوها ووضعوا فيها مخزونَ ثقتهم. يشبهُ الأمرُ انتقاء وبروز البطل الشعبى فى الحكايات القديمة. رجلٌ يأتى من بعيدٍ ليتقدَّم الواجهة، وجموعٌ تتبنّى حكايته وترويها وتُدافع عنها، ومسارٌ جديد للدراما لا يُشبه ما قبله فى هيئته أو توازناته. إن شئت النظر فى سنوات مصر التسع الماضية منذ يونيو 2013، والثمانية بعد تولى الرئيس السيسى مقاليد الحُكم، فإن هذا المدخل لا بديلَ عنه من أجل رؤيةٍ موضوعيّة، وفهمٍ عميق للتشابكات والوقائع، وكيف سارت وإلى أين!
استعادة الدولة وتثبيت الإرادة
كانت ثورة 30 يونيو نقطةً مفصليّة، ولحظةً تاريخية فارقة. منها تبلورت الإرادة الشعبية على أرضية واضحة، وأُعيد فرز الخريطة السياسية وفق معايير وطنيّة. يُمكن النظر إلى الخلاص من الإخوان وما لطّخوا به وجه البلد واتّزانه السياسى والاجتماعى باعتباره أكبر المكاسب المُتحقِّقة حتى تلك اللحظة، لا سيّما أن النزيف بلغ مداه لأكثر من سنتين سابقتين. فى هذا المشهد اضطلعت المؤسَّسة العسكرية بمهمّة وجودية، لم يكن مأمولاً أن نخرج من النفق ما لم تُبادر بها، ولعب المشير السيسى دور القيادة والتوجيه بحسمٍ واعتدال، تبعته أدوارٌ بالغة الدقّة والتأثير من أجل وقف النزيف، وتكملة استئصال الورم، وترشيد كُلفةِ العبور الآمن، وصولاً إلى استعادة الاستقرار وتطبيع الحياة اليومية لملايين المصريين؛ بعدما كانوا مُهدّدين بالقمع ماديًّا ومعنويًّا، وبالوصاية الأُصوليّة الغشوم واتّخاذهم رهائن لصالح مشروع رجعى يتجاوز هويّة مصر ومصالحها وأمنَها القومى.
كان الانتصارُ لإرادة الناس أوّلَ النجاحات وأهمَّها، لكنّه لا ينفصل عن تثبيت تلك الإرادة. حدث ذلك عبر معركةٍ طويلةٍ خاضتها مصر ومُؤسَّساتُها مقابل حروب دعائيّة وسياسيّة مُمنهجة، لم تنفصل عن موجات العنف والإرهاب المدفوعة والمُموّلة من القوى نفسها. هكذا يُمكن النظر الآن إلى قوة الدولة ومُكوّناتها، وثبات مواقفها دون تهاونٍ أو انصياع، واستعادة علاقاتها الطبيعيّة بالغلافين الإقليمى والعالمى وفق شُروطها أو بما لا يتصادم مع عقيدتها، وتوطيد الروابط وترقيتها، والتداخل العميق والواعى مع الملفّات الساخنة، ولعب أدوار رشيدة وحاسمة على جبهات مُلتهبة وفى محافل ومؤسَّسات راسخة أو مُستحدَثة، من زاوية أنها استكمال للنجاح نفسه عبر ترميم ما تركه الإخوان وسابقيهم من شروخ فى جسد مصر، ثم تثبيت هذا الجسد، وتغذية طاقة الدفع لتتحرّك به إلى الأمام رغم ضخامته وثِقَل ميراثه، وصولاً إلى ابتكار مسالك واتّجاهات مُستقبليّة صالحة لإعادة إنتاج الواقع على وجهٍ أفضل، ووضع لَبناتٍ أُولى فى معمار المستقبل وفق رؤيةٍ مُنسجمة مع السياق الراهن داخليًّا وخارجيًّا، وقادرةٍ على استكشاف الطاقات الظاهرة والمُضمرة، وإحسانِ توظيفها إلى مدى يُحقّق لمصر ما أعجزها سابقًا، ويهضم ميراثَها القديم، ويستوعب ما يتشكّل أو يُستجدّ من تحدّيات!
التأسيس لـ"شرعية الإنجاز"
ربّما فرضت اللحظةُ التاريخية خيارَها، لكن ما جاء بعدها كان خيارًا وطنيًّا واعيًا. لنحو ستّة عقود عاشت مصر شرعيّة ثورة يوليو 1952، وعلى ما أنجزته الجمهورية الأولى من أمورٍ بالغة الأهمية فيما يخص الاستقلال والتحرُّر والعدالة الاجتماعية وبناء دولة وطنيّة وقوة إقليميّة قائدة، كان إيقاعُ الزمن أسرعَ كثيرًا من قدرتها على التجاوب، ثم جاءت رياح يناير 2011 بما حملته من عواصف وأتربة لتضعنا أمام أسئلةٍ جادّةٍ تتطلّبُ إجاباتٍ عصرية. يُمكن القول إن مصر كانت فى حاجة إلى شرعيّة جديدةٍ وتحديثٍ للمواثيق والتوافقات القائمة بين الدولة وأجهزتها، وبينها والناس. ربّما كان بالإمكان الاكتفاء بثورة 30 يونيو لتكون شرعيّة جديدة لدولةٍ قاومت الاختطاف والإرهاب وأحبطت مُخطّطَ المساس بثوابتها وسِلمِها الاجتماعى، لكن حالة السكون الموروثة لم تكن مُقنعةً للقيادة والشعب، ولا قابلةً للاستمرار أكثرَ من ذلك. من هنا بدأ مسارُ التأسيس الجديد بالانتقال من شرعيّة السكون والثبات وتجميد المشهد، إلى شرعيّة الحركة والإنجاز والتجاوب مع الزمن ومُتغيّراته. من امتداحِ التوقُّف فى المكان، إلى حَملِ المكان نفسِه والانطلاق به. ومن تحقيق الحدِّ الأدنى ممّا يُمكن إنجازه، إلى تسريع الوتيرة ومُسابقة الوقت والسعى إلى تجاوز الحدود القصوى!
كان السياق قديمًا يستندُ إلى إدارة سياسيّة تُدير المُتاحَ مشفوعًا بمُبرِّرات دائمة عن قُصور الإمكانات، يُقابلها خطابٌ شعبوىُّ الطابع من المُعارضة والخصوم السياسيِّين عن ثراء الدولة ووفرة الموارد وأحلام الرغد والرفاهية مُمكنةِ التحقيق. كلا الأمرين لما يكن دقيقًا للأسف، الأوّل رضخَ لضغوط الواقع دون إبداءِ رغبةٍ حقيقيّة فى تجاوزها، والآخر اعتمد المُزايدةَ سبيلاً من أجل الإحراج وكَسب النقاط خارج أحواز المنطق والتدقيق والمعرفة المُتجرِّدة الأمينة. ما أحدثته دولة 30 يونيو فى تلك البيئةِ اختراقٌ يُمثّل أحد وجوه النجاح، إذ لم ترضخ لقيودِ الماضى وما راكمته من فواتير على كاهل الدولة، ولم تُقدِّم وُعودًا ورديّة مجانيّة لا جذر لها ولا سند. منذ اللحظة الأولى كان الرئيس صريحًا ودقيقًا - لعلّه أكثر وضوحًا من مُعارضيه ومُؤيّديه على السّواء - لقد وضع الناس أمام صورة موضوعيّة عن مصر وواقعها، عن آلامها القديمة وشواغلها الجديدة وأعبائها المُتراكمة، وعن أحلامه الشخصية والوطنية، والمسار المُرهق من أجل تحصيلها. ثمّ انطلق من تلك المُكاشفةِ إلى وضع صيغةٍ وطنيّةٍ للعمل، أجادت توظيف إمكانات البلد إلى مدىً يفوق التوقُّعات والأحلام، وأحرزت تقدُّمًا ونجاحات مُتوازية فى كلّ المسارات، واحترمت الأوضاع الداخلية واحتياجات الناس وتحدِّيات الواقع وضغوط السياقين الإقليمى والعالمى. هكذا تأسَّست مرحلةٌ جديدة من الحركة تستند إلى شراكة حقيقيّة بدلاً من الصيغة الرعويّة القديمة، وإلى تواضعٍ أمام الظروف الصعبة لا يخلو من تحدٍّ لها ورغبةٍ صادقة فى تفكيكها. والغاية من ذلك أن يكون الناسُ واعين وراغبين فى العُبور معًا، وأن نستعيد ثقتَنا فى أنفسنا بعدما تشقَّقت من ضربات الزمن والحكومات السابقة وسُلطة الإخوان ومُراهقة التأييد والمُعارضة وفق انحيازات سياسيّة أو شخصيّة، أكثر من الانحياز للوطن وشواغله!
الخروج من النفق المظلم
تسلّم "السيسى" بلدًا مُنهكًا وفق كلّ المُؤشِّرات والأرقام وما رأيناه وعشناه. خسائر أحداث يناير 2011 وما تلاها تجاوزت وحدها 6 تريليونات جنيه، فضلاً عن نزيفٍ اقتصادى وتراجُعٍ فى الإنتاج وزيادة كُلفة المعيشة. انكمش الاحتياطى النقدى مثلاً من مستوى 36 مليار دولار قبل 2011 إلى نحو 12 مليارًا بحلول 2014، وتجاوزت البطالة 13%، وتقلّصت الرقعة الزراعية بأكثر من 90 ألف فدان بسبب التعدِّيات والمُمارسات الجائرة، مع تراجع النمو والاستثمار المُباشر وزيادة مُؤشِّرات التضخّم والفقر والأمراض واهتزاز التصنيف الائتمانى وثقة الأسواق والمُستثمرين، وتهالك البنية التحتيّة فضلاً عن تشوُّهاتٍ فى الصرف والمالية العامّة، كما اتّخذ الدَّيْن العام مسارًا صاعدًا لتغطية الاستهلاك واستخدامات الموازنة الضرورية، من دون نموٍّ ملموسٍ فى المشروعات العامّة والاستثمارات الحكوميّة، وعانت الموازنة نفسها من عجزٍ أوّلى بنسبة 3.5% فى 2014 وعجزٍ إجمالى 12% فى العام السابق عليه.
الآن تبدو الصورة مُختلفةً تمامًا. سجّل الاحتياطى مستوى قياسيًّا قبل شهور، وتراجع عجز الموازنة إلى 6.1% مع فائض أوّلى 1.5% ونموّ بنسبة 5.5% بحسب مشروع موازنة 2022/ 2023. كما تراجع التضخّم والبطالة وتحسّن التصنيف الائتمانى قياسًا إلى مستويات 2014 وما قبلها، وكّنّا ننتظر مُؤشِّرات أفضل لولا ضغوط جائحة كورونا وآثار الحرب الأوكرانيّة. عالجت الإدارة الجديدة تشوّهات الاقتصاد وازدواج سوق الصرف ورفعت جاذبيتها للاستثمار المباشر، كما طوّرت شراكات نوعيّة فى مجالات الصناعة والطاقة وتوطين التكنولوجيا، وتوسّعت فى برامج الصحة والرعاية الاجتماعية وتطوير التعليم، إضافة إلى خططٍ للتمدّد جغرافيا بتوسعة مدى التنمية وزيادة المعمور منسوبًا إلى إجمالى المساحة، وزراعة نحو مليونى فدان تتجاوز 20% من ثروة مصر الزراعية طوال تاريخها. إلى ذلك يُمكن رصد قفزات واسعة فى البنية التحتية والمرافق والطرق والمدن الجديدة والمبادرات الصحية وتطوير العشوائيات ونموّ الإنتاج وتحسّن الميزان التجارى وطفرة الصادرات غير البترولية، تُرافقها نجاحات اجتماعيّة فى برامج نوعية مثل "تكافل وكرامة" وحملة "100 مليون صحة" بما تُغطّيه من امتدادٍ جغرافى عريض وعدد مُنتفعين يتجاوز نصف المصريين تقريبًا. وفى القلب من كل ذلك يبرز ترميم الدولة لسياستها الخارجية وعلاقاتها، وبناء مسار دبلوماسى نشيط ومَرنٍ يستند إلى تحديدٍ دقيق لدوائر الانتماء والأمن القومى، وبناءٍ نوعىٍّ للقُدرة، وانفتاحٍ واسع على الجميع دون إفراطٍ أو تفريط!
فى الوجه المباشر تُمثّل خريطة التنمية الواسعة، وتمدُّدها أفقيًّا ورأسيًّا على كامل الجغرافيا وفى كلّ القطاعات، تحوّلا عميقًا فى فلسفة الدولة ومُكوّنات النموِّ ورؤيتها لعناصر قُوّتها الشاملة ومدى تكاملها، وكُلّها روافع ثقيلة ساعدت على الخروج من النفق المُظلم، والعبور الآمن بالدولة طوال ثمانى سنوات تدرَّجت فيها الرؤى والتكتيكات من استيعاب الظَّرفِ واشتراطاته، إلى بناء القُدرة وتأهيل الذات، وصولاً لمرحلةٍ من النُضج ربما لم تشهدها الدولة المصرية الحديثة من قبل. لكن رغم كل ذلك يظلُّ البُعد المعنوى بطلاً يحتل واجهة الصورة، ليس فقط من زاوية أن الإنجاز يُرسِّخ التجربة ويُعزز الثقة فى الجمهورية الثانية ومشروعها؛ ولكن أيضًا بالنظر إلى أنه لولا علاج البلد - من حيث كونه مُؤسَّساتٍ وأفرادًا - علاجًا نفسيًّا وذهنيًّا سليمًا، ما كان لنا أن نستعيد التوازن ونضعَ أقدامَنا على أرضيّةٍ صُلبة تحمل أثقالنا وتوفّر لنا مُتّسعًا للحركة وفُرصةً كافية للانطلاق نحو الوثبة المرجُوَّة.
الحركة دليل الاستقرار
ميزةُ دولة 30 يونيو الأساسية أنها ديناميكيّة لا تركن إلى حالٍ واحدة، حتى لو كانت تلك الحالةُ تُحقِّق منسوبًا مُقنعًا من الاستقرار والسلامة. تتعاطى القيادة ومُكوّنات الإدارة المصرية مع التطوُّرات بروحٍ حيّة ورؤيةٍ قادرة على الاستيعاب والتطوير. يُمكن استكشافُ أمارات ذلك وشواهدِه بالنظر إلى محطّات الرحلة منذ 2013 حتى الآن. فرضت الظروفُ الضاغطة منطقَها بعد إطاحة الإخوان من السُّلطة؛ فاتّخذت الدولة وضعيّة الدفاع دون تخلٍّ عن الحركةِ والطموح، وكُلّما أحرزت نجاحًا أو حقَّقت اختراقًا وحسَّنت جانبًا من أوضاعها أعادت ترتيب البيت وتشكيلَ الصورةِ على وجهٍ أكثر انسجامًا مع التحدِّيات وتجاوبًا مع الآمال. هكذا قطعت شوطًا طويلاً فى مُواجهة الإرهاب والعنف بالتزامن مع إطلاق استراتيجيّة تنمويّة شاملة، وأصلحت الاقتصاد وتشوُّهاته دون تهاونٍ فى العدالة والرعاية الاجتماعيّة، وقاومت الضغوطَ والمواقف الخارجية المُوجَّهة دون قطيعةٍ أو إفسادٍ للعلاقات. ورمّمت الجمهورية الأولى دون عداءٍ أو تحامُل؛ من أجل أن تضع ركائز وطيدة للجمهورية الجديدة. تجاوزت خطابات المُزايدة والابتزاز والوعود الورديَّة إلى المُصارحة والعمل والإنجاز دون ضجيجٍ أو افتعال. وفتحت المجال واسعًا كُلَّما سنحت فُرصة مُواتية للانفتاح، ومن ذلك إلغاء حالة الطوارئ، وإطلاق الاستراتيجيّة الوطنيّة لحقوق الإنسان، ودعوة الرئيس إلى حوار وطنى، وتشكيل لجنة العفو عن المسجونين مرّتين، يتكامل مع كلِّ ذلك تمكينُ النساء والشباب وذوى الهِمَم، وتدشين برامج نوعيّة للتدريب وتأهيل الكوادر، وبناء دبلوماسيّة اتّصالٍ نشطة من خلال المُنتديات والمُؤتمرات والفعاليّات النوعيّة المتّصلة اتّصالاً وثيقًا ومُباشرًا برؤية الدولة، والمشمولة برعاية الإدارة السياسية فى أعلى مُستوياتها.
جرت الدماءُ فى شرايين مصر. لعلّ هذا أهم العناوين المُلخّصة لدولة 30 يونيو وسنوات الرئيس السيسى الثمانية منذ 2014. لم يعُد الاستقرار يُقاس ببقاء الصورة كما كانت، ولا بتجميد البلد والواقع والمؤسَّسات والناس على حالهم، وإنما بمدى القُدرة على الحركة، والرغبة الصادقة فيها، ومُجاراة الزمن بإيقاعه الصاخب دون تعثُّرٍ أو اختلالٍ للتَّوازن. لم يعد الإنجاز تعبيرًا مُعلّقًا فى الفراغ كما اعتدناه طوال عقود، وإنما مُمارسة عضويّة مُشتبكة مع السياق العام وفاعلة فيه وقادرة على تطويره ودفعه إلى الأمام، ومنسوبة أيضًا إلى ما تسبقها من حركة ونجاحات. وكذلك لم يعُد الخطاب السياسى وسيلةً للترويض وبيع الأوهام وكبح الطاقة؛ بل مساحة للمُكاشفة والإفصاح والوعى والانطلاق على بصيرة تعرف المصاعب جيدًا؛ حتى تتمسّك بالآمال كما يجب. باختصارٍ تجاوزت مصر الجمهوريةَ الأُولى إلى جمهورية جديدة تعى واقعها وتُرقِّى قُدراتها وتملك أسباب التقدُّم والإنجاز على أُسُسٍ عمليّة وبمنطقٍ يستجيب لاشتراطات العصر. قفزت على العجز والشيخوخة إلى استجلاء القُوّة والقُدرة وتجديد الشباب وإعادة بناء الثقة على مستوى الدولة والفرد. ثمانى سنوات ليست مدّةً طويلة فى أعمار الأُمم، بل ربّما لا تسمح بتغيير حياة فردٍ، لكنها كانت كافية لأن يخرج بلد بحجم مصر من نفقه المُظلم، وأن يعود من طريقٍ كان مُهدَّدًا فيه بالضياع الكامل، وووأن وأوأن يستعيد توازنه وثقته فى ذاته، ويُؤسِّس مسارًا بديلا يُعوّضه عمّا استهلكته السنوات والحكومات السابقة وفوضاها. يُمكن أن نُعدِّد كثيرًا من الإنجازات فى كلِّ زاوية ومجال، لكنَّ تجديدَ الدماء وامتلاكَ القُدرة وإحكامَ الحركة واستيعابَ تحوّلات العالم من حولنا تظلّ كُلُّها أهمَّ ما حققناه، وهو ما يكفى لإرساء قواعد جمهورية جديدة فعلاً، وحقيقيّة تمامًا، تنتمى للناس بقدر احترامها لعقولهم وعملها من أجل مصالحهم، وتشتبك مع التحدِّيات اشتباكًا جادًّا لا يخلو من مُرونةٍ. تكره الوهمَ فلا تستهلكه أو تبيعه لظهيرها الشعبى. تمقُت العجزَ فلا تعترف به ولا تُشجِّع عليه. تحترمُ الاختلافَ من موقعِ قُوّة واقتدارٍ فلا تُزايد ولا تخضع للمزايدة أو الابتزاز. والأهم أنّها لا تُؤسِّس شرعيّتها إلا على الرغبة فى الفعل والقدرة على الإنجاز.