التحولات التى شهدها العالم على مدار العقود الأخيرة، فى السياسة والاقتصاد، وفى ظل ثورات التكنولوجيا والاتصال، أدخلت الكثير من التغييرات على الأنماط الاقتصادية التقليدية، ومن مفاهيم الربح وتكوين الرأسمال، وشكل الإنتاج والتسويق والمنافسة، حيث استطاعت شركات المعلومات والتسويق الإلكترونى أن تحقق أرباحا وثروات فى سنوات، أضعاف ما كان يحققه الاقتصاد التقليدى خلال عقود، ومنذ التسعينيات من القرن العشرين صعدت شركات عملاقة، وتخطت الكثير من التحالفات الكبرى، والتى يضطر بعضها إلى الخضوع لشروط العمالقة الجدد فى تسويق أو توزيع منتجاتها.
هذا التحول فى شكل ومضمون العلاقات والتفاعل والإنتاج، ومفاهيم الربح، وعلى مدار أربعة عقود، ومنذ التسعينيات من القرن العشرين حتى الآن، عرف العالم قمة الموجة الثالثة، وهو مصطلح أطلقه «آلفين توفلر»، معتبرا أن كل موجة تزيح طبيعة المجتمعات والثقافات السابقة عليها، الموجة الأولى هى مجتمع ما بعد الثورة الزراعية، والذى أزاح وتجاوز ثقافة مجتمع الصيد، الموجة الثانية هى المجتمع أثناء الثورة الصناعية من أواخر القرن السابع عشر وحتى أواسط القرن العشرين، والموجة الثالثة، وهى مجتمع صناعى يقوم على الإنتاج الضخم، والتوزيع الواسع، والاستهلاك الكبير، ووسائل الإعلام ذات الجمهور العريض، مع وسائل التسلية والترفيه، مع سعى إلى توحيد المقاييس أو التوحيد المعيارى، ومفهوم المركزية، ونظام التواصل والتزامن السريع.
ورأى هؤلاء أن الأميين «ليسوا من لا يقرأون ولا يكتبون، لكن من ليست عندهم قابلية تعلم الشىء ثم مسح ما تعلموه ثم تعلمه مرة أخرى».
ظهر هذا - بوضوح - مع المرحلة التى ظهر فيها فيروس كورونا، حيث كانت شركات التكنولوجيا والتوصيل السريع هى التى حققت الأرباح الأكبر، بينما واجهت الشركات التقليدية أزمات، وانعكست تأثيرات كورونا على سلاسل الإمداد والتضخم، قبل أن تنضم إليها أزمة الحرب فى أوكرانيا، لتضاعف من تداعيات الأزمة، وترتفع نسب التضخم فى العالم، ويرى بعض خبراء الاقتصاد، أن ما يحدث هو أعراض لتطورات تجرى على مدار العقود الثلاثة، تتداخل فيها المنافسة الاقتصادية مع السياسية، أو تتداخلان لتصنعا النتائج الحالية، بينما يشير علماء المعلومات والمستقبليات إلى أن ما يجرى هو خليط من إعادة بناء النفوذ الاقتصادى، وترتيب المواجهات، بعد سنوات شهدت تطورات كبرى ارتفعت فيها دول وتراجعت أخرى، بناء على قدرتها على امتلاك وتوظيف التكنولوجيا والاقتصاد الرمزى، الذى أصبح ضرورة لأى اقتصاد يرغب فى الوجود داخل منظومة دولية معقدة.
المفارقة، أنه رغم التطور التكنولوجى، فإن المحاصيل التقليدية والغذاء هى العناصر الحاسمة فى الأزمة، وهو ما يؤكد حجم التغيير فى شكل السلطة الاقتصادية، والأشكال التقليدية، وهو ما يرى بعض خبراء الاقتصاد أنه يحدث انعكاسا لتطورات على مدار عقود أخيرة، بل إن الحرب الحالية كشفت عن تداخلات للأنظمة المالية والاقتصاد الرقمى، عندما تداخلت العقوبات الأوروبية على روسيا مع أنظمة التحويل البنكى الإلكترونى «سويفت»، وما يترتب من سعى دول متعددة للبحث عن طرق وأنظمة أكثر ثباتا، بحيث يصعب إدماجها كأدوات للصراع، لأن هذا يتناقض مع حريات التجارة وانتقال الأموال، والتى يفترض أن اتفاقيات التجارة والعولمة الاقتصادية أرستها على مدار العقود الأخيرة، لكنها تواجه واقعا يطرح أسئلة فى طبيعة الأنظمة الاقتصادية العالمية.
والشاهد فى هذا، أن العالم ربما يكون على موعد مع تغييرات أخرى فى النظام الاقتصادى، وإن كانت الخبرات المتاحة غير قادرة على قراءة سيناريوهات ومواقيت انتهاء هذه الأ زمة.