الدين بيقول إيه؟ لرأى الدين فى مجتمعاتنا مكانة مرجعية عند تلك الشعوب، التى عُرفت على مدار تاريخها بتديُّنها، حيث يشكِّل الدينُ عصبَ الثقافة المحرِّك للسلوك الفردى والجمعى على السواء، ولذا لا نستغرب من تدخل أحكام الشريعة فى تفاصيل الحياة الشخصية للفرد لتنظيمها وتهذيبها، كما تتدخل فى تدبير شؤون الأسرة من خلال قوانين الأحوال الشخصية القائمة على الشرع الشريف، بل تنظيم العلاقة بين المسلم والآخر فى إطار التعايش المشترك الذى أيَّدته العهود والمواثيق الدولية، فجاءت مُقرِّرة ومُفعِّلة لما فى أصول الإسلام، كما نصَّت عليه آيات الكتاب الحكيم وأحاديثُ النبى صلى الله عليه وسلم المتكاثرة الداعية إلى برِّ غير المسلم ورعاية كرامة بنى الإنسان وحريته على العموم.
من هنا نقف على مكانة الفتوى، التى هى إخبار عن حكم شرعى أو بيان حكم الله بمقتضى الأدلة الشرعية على جهة العموم والشمول، ودورها فى بناء المجتمع وتسيير حركته وحفظ أمنه الفكرى والاجتماعى، إذ يحتاج المسلمون إلى معرفة أحكام دينهم فى قضايا العبادات والمعاملات، فالفتوى هى الأداة المنظمة والراعية لعلاقة المسلم بربه من جهة، وعلاقته بأخيه فى مجتمعه المسلم من جهة ثانية، ثم علاقته بأخيه فى مجتمع الإنسانية من جهة ثالثة.
فإذا أمكننا أن نتصوَّر خطورةَ ذلك الأمر، فلا نتصوَّر أن ينضبط ذلك إلا من خلال اعتماد مرجعية إفتائية يطمئن إليها السائل على سلامته الشخصية وسلامة أسرته ومجتمعه جميعًا، ويتحقق ذلك الأمان بسؤال مَن يَغلب على الظن أنه من أهل العلم والتقوى، الجدير بتحمُّل مسؤولية التوقيع عن ربِّ العالمين، العليم بمقاصد التشريع، الخبير بمآلات الفتوى وتنزيلها على الواقع، وأثرها فى حياة الأفراد وتأثيرها على الأمن المجتمعى. وكلما توافرت الآليات التى بها تنضبط الفتوى على ضوء الكتاب والسنة، مع مراعاة روح الشرع الحنيف ومقاصده السامية، اقتربنا من الصورة المثلى لحياة اجتماعية آمنة، يقوم فيها كل فرد بما يجب عليه تجاه نفسه وأسرته، بل تجاه مجتمعه ووطنه والعالم أجمع.
غير أنَّه من المؤسف انتشار نوع من الفوضى الإفتائية فى الآونة الأخيرة بسبب تصدُّر غير المؤهلين للإفتاء، وتجرؤهم على هذا المقام السامى، مقام التوقيع عن رب العالمين، وخوضهم فى أمور الدين وتفصيل أحكامه بغير علم أصيل ولا دُرْبَة على تنزيل العلم -إن كان بعضهم على شىء منه- على أرض الواقع! وقد تسبَّبت هذه الظاهرة السيئة فى انتشار الأمراض الاجتماعية الخطيرة، كالتطرف الفكرى والتشدُّد العقدى بالخلط عن جهل أو عمد بين مسائل الفقه الفرعية وأصول العقيدة، وقد أفضى ذلك إلى العنف السلوكى والإرهاب الذى نشاهد آثاره المدمرة، التى لم يكد يسلم منها مجتمع من المجتمعات، بل وصل الحال ببعض الدول إلى الدخول فى آتون الحروب الأهلية، فدُمِّرت البنى الأساسية وعُطِّلت عجلة الإنتاج وتراجعت معدلات التنمية، وقوِّضت أركان السِّلْم العام.
وعزاؤنا أننا على يقين بأن الإسلام برىء من هذه الانحرافات الفكرية والآراء الشاذة، التى تُلقى بصاحبها فى براثن التطرف والإرهاب، بل إننا مطمئنون إلى أنَّ الأديان جميعها -وعلى رأسها الإسلام- ما جاءت داعيةً إلَّا إلى العمران، وتأكيد معانى الإخاء، وتحقيق التعايش بين الإنسان وأخيه الإنسان مهما كان جنسه أو لونه أو معتقده، أوَليست هذه هى خلاصة الأديان، أن يحب أحدُنا لأخيه ما يحبُّ لنفسه، أو كما قال صلى الله عليه وسلم: «أحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا».
من هنا تتجلى ضرورة تنظيم الفتاوى، لخطرها على سيرورة حياة الأفراد والمجتمعات ودورها فى تحديد مصائرها، فكانت المطالبة بوضع ميثاق شرف أو قانون لتنظيم شؤون الفتوى أمرًا مُلِحًّا وضروريًّا، لا يجب التراخى فيه بحال من الأحوال، وإلا كنا كمن يسمح لغير المتخصص فى الطب بعلاج الناس مع ما يحمله ذلك من أضرار جسيمة، فكما يجب الحَجْرُ على الجاهل- ولو كان طبيبًا غير متخصص- من ممارسة الطب، فكذلك يجب الحجرُ على الجاهل بمصادر الفتوى ومواردها أن يُفتى فى أمور الناس وإلا أوردهم المهالك، فليس كل مَن تعلَّم يصلح أن يتكلَّم، ولا ينبغى أن يظن أحد أن الحجر الإفتائى هذا- إن صح ذلك التعبير- يعنى تقييد الحريات، أو نوعًا من فرض الوصاية الدينية على الناس، بل المقصود من ذلك تحقيق المصلحة التى ما جاءت الشريعة إلا لتحققها، ودرء المفاسد التى تنجم عن فوضى الفتاوى، والتى لا ينكرها عاقل بعد أن رأينا أثرها المشاهد والمحسوس من انتشار الجرائم بمسوغات إفتائية من غير المتخصصين المتصدرين للإفتاء على منصات التواصل الاجتماعى وغيرها من منابر الإعلام.
عند هذه النقطة، يجب أن نفرق بين أمرين مهمين، الأول إتاحة المجال للدعاة والعلماء يتكلم كلٌّ بحسب علمه وما أقامه الله فيه لتعليم الناس صحيح الدين، على أن يكون ذلك مُسيَّجًا بقوله تعالى: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِى هِى أَحْسَنُ» «النحل: 125»، ثانيًا: الأمور المتعلقة بالفتوى سواء فى القضايا العامة أو الخاصة، فهذه لا بدَّ فيها من تنظيم وترشيد وتقنين، ذلك أنَّ للمفتى شروطًا ينبغى أن تتوافر فيه لا تقتصر على دراسته الشرعية، بل هناك مهارات زائدة يجب أن يكتسبها تتعلق بإدراك الواقع من كل نواحيه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى مواكبة مستجدات العصر، مع مراعاة مآلات الفتوى، وكلما كان المتصدر للإفتاء متصلًا بالواقع مدركًا لأبعاده، حققت فتواه مقصدها الصحيح من تحقيق مصالح العباد وتجنيبهم شر الفوضى بكل أنواعها.
إنَّ تنظيم الفتاوى أمر لا بد منه، لأنه السبيل الوحيد لسد حاجة الناس الطبيعية إلى الدين، فإن لم يجد الناس الفتاوى المنظَّمة التى تُشبِع نهمتهم، لجأوا إلى فتاوى التنظيمات المنحرفة عن وسطية الإسلام، وشيوخ الفضائيات الجهال الذين إذا سئلوا أفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا.
على أن مصر تزخر بالعلماء الثقات المتخرجين فى أزهرها الشريف على المنهج الوسطى المعتدل، واطمأن الناس على تطاول الأيام والدهور إلى عِلمهم وعدالتهم وضبطهم وأمانتهم. كذلك وثق المصريون بمؤسستها الإفتائية العريقة، دار الإفتاء المصرية، التى جرت فى عملها على بناء علمى متراكم تتداخل فيه كل التخصصات والعلوم، وهى المؤسسة التى أخذت على عاتقها تدريب الكوادر الإفتائية وإعدادها على مستوى العالم. لقد وثق الناس بهذه المؤسسة كونها الهيئة التى تمتلك مواصفات المرجعية الصحيحة لمن يريد أن يمارس الإفتاء على نحو صحيح. إنها باختصار الهيئة التى تمتلك المواصفات الفنية الدقيقة والتى يجب الرجوع إليها عند ممارسة الإفتاء.