قرر نابليون بونابرت قائد الحملة الفرنسية على مصر الزحف إلى القاهرة، ومغادرة الإسكندرية بعد أن احتلتها قواته، ولأنها أول مدينة مصرية نزلها وواجه فيها المصريين، عزم أن يتبع فيها السياسة التى رسمها من قبل، وهى مجاملة الأهالى ومحاسبتهم واجتذابهم إليه بالكلم الطيب والوعود الحسنة، حسبما يذكر عبدالرحمن الرافعى فى الجزء الأول من كتابه «تاريخ الحركة القومية»، مضيفا: «بادر بونابرت عقب احتلاله الإسكندرية إلى دعوة مشايخ المدينة وأعيانها لمقابلته، فلما اجتمع بهم أعرب لهم عن تمنيه السعادة والرفاهية للشعب المصرى، وأوضح لهم أنه لايقصد بالأهالى سوءا، وطارحهم الرأى فى إصلاح حالة البلاد، وواثقهم على الاطمئنان على حياتهم وأموالهم، وأن لا يحاربوا الجيش الفرنسى، وأن يكونوا موالين للجمهورية الفرنسية».
كان «محمد كريم» حاضرا هذا اللقاء، ويذكر الرافعى، أن نابليون رد إلى محمد كريم الذى استبسل فى الدفاع عن المدينة سلاحه، وقال له فى مجلس أعيان المدينة: «لقد أخذتك والسلاح فى يدك، وكان لى أن أعاملك معاملة الأسير، ولكنك استبسلت فى الدفاع، والشجاعة متلازمة مع الشرف، لذلك أعيد إليك سلاحك، وآمل أن تبدى للجمهورية الفرنسية من الإخلاص ما كنت تبديه لحكومة سيئة».
يذكر الرافعى، أن «المسيو فيفان دينون» حضر هذا المجلس، وأثبت فى كتابه «رحلة فى الوجه البحرى ومصر العليا» أقوال نابليون لمحمد كريم، ووصفه بقوله: «لقد لاحظت على ملامح هذا الرجل الذكاء والدهاء، وكأنما كان يكتم عواطفه عنا، على أنه بدت عليه علامات التأثر من العفو الذى أسداه إليه القائد العام، وصوره فى مجموعة رسومه».
كانت نتيجة هذه المقابلة تحرير «وثيقة العهود» بين نابليون وهؤلاء فى 4 يوليو 1798، وتنص: «يستمر الأعيان على العمل بقوانينهم والقيام بشعائرهم الدينية، وفض المنازعات بينهم مع مراعاة العدل والابتعاد عن مسالك الهوى، وأن يختاروا القاضى الذى يتولى القضاء فى محكمة الشرع من خيار العلماء المشهود لهم بالاستقامة والتقوى، وعليه أن لا يقضى فى أمر إلا بعد الرجوع إلى مجلس العلماء».
تضيف الوثيقة: «يجتهد الموقعون على هذا فى إقامة العدل ويبذلون ما فى وسعهم لتحقيق هذا الغرض، وسيعملون جهودهم لما فيه صالح البلاد، وتوفير أسباب السعادة للأهالى ومحاربة الأشرار والمفسدين، ويتعهدون كذلك أن لا يخونوا الجيش الفرنسى، وأن لا يعملوا عملا يضر مصالحه، وأن لا يشتركوا فى مؤامرة تدبر ضده، وتعهد لهم القائد العام من جهته أن يمنع كل جندى من جنوده التعدى على أهالى الإسكندرية، ويعلن أن من يرتكب من الجنود عدوانا أو ظلما ينكل به ويعاقب بأشد أنواع العقوبة، ويتعهد القائد العام علنا بأن لا يجبر أيا من الأهالى على تغيير دينه وتغيير شعائره الدينية، فإن مقصده هو إقرار الأهالى فى دينهم واطمئنانهم على أنفسهم وأموالهم وسيبذل فى هذا السبيل كل ما لديه من قوة ما داموا لا يقصدون به ولا بجيشه سوءا».. وقع على هذا الاتفاق: إبراهيم البرجى، مفتى الحنفية، وسليمان الكلاف مفتى المالكية، ومحمد المسيرى، وأحمد عبدالله الشافعى، حسن كانيد، عباس القويضى، مصطفى محمد.
بعد ذلك قرر نابليون تعيين الجنرال كليبر قومندانا، وحاكما لدائرة الإسكندرية وضواحيها، ويذكر الرافعى: «لما أزمع نابليون مغادرة الإسكندرية فى 7 يوليو 1798 أوصى كليبر أن يبذل ما فى وسعه لاستبقاء العلاقات الحسنة مع الأهالى، وإبداء كل أنواع الاحترام للمفتين ورؤساء المشايخ، ومع ذلك فرض على المدينة غرامة حربية 150 ألف فرنك، وهى غرامة فادحة إذا قيست بما كانت عليه المدينة من الفقر».
يضيف «الرافعي» أن نابليون وقت مغادرته اسكندرية فى 7 يوليو، مثل هذا اليوم، 1798 أمر بإبقاء محمد كريم حاكما لها، وكتب له خطابا قال فيه: «إلى السيد محمد كريم، المعسكر العام بالإسكندرية فى 19 مسيدور من السنة السادسة (7 يوليو سنة 1798) .. لقد سر القائد العام سرورا تاما من الخطة التى سلكها محمد كريم منذ قدوم الجيش الفرنسى، وإعرابا عن هذا السرور يعينه فى وظيفة محافظ دائرة الإسكندرية، وستصل إليه أوامره بواسطة الجنرال «كليبر» القائد العام للجهة، وهذا لا يمنعه من أن يراسل القائد العام رأسا متى شاء، وعلى الجنرال كليبر أن يطلب منه كل ما تقتضيه مهام الجيش الفرنسى وبوليس دائرة العرب.. بونابرت».
لم يكن محمد كريم بتلك الحالة التى تصورها أو تمناها نابليون، ففى 20 يوليو 1798 أمر «كليبر» بالقبض عليه واتهمه بأنه كانت له يد فى المقاومة ضد كتيبة جنود فرنسيين قامت من الإسكندرية لتجوب جهات فى مديرية البحيرة يوم 17 يوليو 1798، فتعقبها الأهالى وخسرت ثلاثين جنديا بين قتيل وجريح، وعادت يوم 20 يوم يوليو 1798 منهوكة القوى، حسبما يؤكد الرافعى.