خلال أقل من ثلاث سنوات شهد العالم عددا من التقلبات والأحداث غيرت من طبيعة العالم والعلاقات الدولية والاقتصاد بصورة لم يشهدها العالم على مدى عقد أو أكثر، وهى تحولات تضع العالم فى حال غير طبيعى وغير مستقر، بشكل يجعل من الصعب التكهن بشكل العالم وعلاقاته ما قبل الأزمات، بينما كان العالم يستعد لاستعادة حالته الطبيعية ما قبل فيروس كورونا، حتى اندلعت حرب أوكرانيا، لتضاعف من انعكاسات الأزمات على الاقتصاد والتجارة، وتجد الدول غير المنخرطة فى الصراع نفسها مطالبة بدفع ثمن مضاعف لصراع بلا نهاية قريبة.
صحيح أن العالم شهد تحولات ما بعد الحرب الباردة، والذى تصدرت فيه الولايات المتحدة الصورة، لكنه عاد ليشهد استقطابا وتوترا يتجاوز جغرافيا مناطق الصراع، ليمد ظلاله على كل العالم بلا استثناء، وبشكل لم يحدث على مدى عقود الحرب الباردة والأزمات والحروب المتعددة طوال خمسة عقود.
فقد اجتمعت لأول مرة تأثيرات التغير المناخى مع فيروس كورونا، وأخيرا حرب أوكرانيا، لتنعكس على أنظمة الأغذية والزراعة فى واحدة من أكثر موجات التضخم خلال قرن كامل، لتقفز أسعار الغذاء العالمية منذ منتصف عام 2020 وتتراكم لتمثل إحدى أكبر الأزمات الوجودية، لدرجة أن تقريرا لمنظمة الأغذية والزراعة «فاو» يتوقع أنه فى حال استمرار الحرب فإن 17 مليون شخص حول العالم سيعانون من نقص الأغذية المزمن بحلول عام 2023.
وحسب شو دونيو، المدير العام لمنظمة «فاو»، فإن الأحداث العالمية الأخيرة من جائحة كوفيد - 19 إلى أزمة المناخ والصراعات المتعددة حول العالم والحرب فى أوكرانيا، أثرت بشكل كبير على أنظمة الأغذية الزراعية بطرق متعددة، حيث زادت الواردات الغذائية للدول الـ62 الأكثر فقرا إلى 24.6 مليار دولار فى عام 2022، ما يؤثر على 1.79 مليار شخص.
وأشار تقرير حالة الأمن الغذائى والتغذية فى العالم عام 2022 إلى أن الجوع فى العالم ازداد مرة أخرى فى عام 2021، ما يعكس تزايد عدم المساواة بين البلدان وداخلها، وأن 828 مليون شخص عانوا من الجوع فى 2021 بزيادة 46 مليونا عن 2020 و150 مليونا عن 2019 قبل الجائحة.. وقال رئيس البنك الدولى ديفيد مالباس، فى وقت سابق «إن الحرب فى أوكرانيا، وتدابير الإغلاق فى الصين، واضطرابات سلاسل التوريد، وخطر التضخم المصحوب بركود اقتصادى يضر بالنمو، وسيكون من الصعب بالنسبة لدول عديدة تفادى خطر الركود».
لم تقف تأثيرات التضخم عند دولة دون أخرى، لكنها تؤثر بشكل أكثر خطرا على الدول الأضعف، بجانب تأثيراتها على الدول الكبرى، الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، حيث تجاوز الصراع روسيا وأوكرانيا، إلى أوروبا والولايات المتحدة، وينعكس على الأمن والاقتصاد والسياسة، ويفرض تحديات سياسية واقتصادية، مع صعوبة رسم سيناريوهات واضحة تتوقع نهاية الأزمة، فى وقت تجرى عملية إعادة تشكيل لنظام عالمى ظل يموج بالتغيرات على مدار عقود، لكنه هذه المرة يظهر فى مؤشرات الاقتصاد والبورصات وأسعار النفط والغاز والقمح بشكل يؤثر مباشرة على طعام المواطنين فى العالم، فضلا عن سيناريوهات التعامل مع تدفقات الغاز من روسيا لأوروبا، مع استمرار العقوبات الغربية على موسكو، وتمسك الطرف الروسى بورقة الطاقة ضمن أوراق الصراع، انتظارا لشتاء قد يمثل خطوطا أخرى فى معادلات النفوذ والسياسة، من خلال توازن وقدرة على التعامل بدقة، مع سيناريوهات قد تتغير فى أى لحظة، لكنها تترك آثارها على الاقتصاد ببصمات غليظة.