لم يكن محمد على باشا، حين جاء إلى مصر عام 1801، يعرف لغة أخرى غير اللغة التركية، وكذلك الجيل الأول من أسرته، حسبما يؤكد «أكمل الدين إحسان أوغلى» فى كتابه «الأتراك فى مصر»، مضيفا: نالوا قسطا متوسطا من الثقافة العثمانية فى بلدة قولة «ألبانيا»، ثم جاءوا إلى مصر على هذه الحال واستوطنوها، غير أن «الباشا» لم يكتف بذلك الإطار الثقافى المحدود مع النفوذ القوى الذى بناه، والغنى والثراء الذى أحرزه فى مصر «بعد أن تولى حكمها فى مايو 1805»، فقام أولا بالارتقاء بنفسه ثقافيا، وعمل فى نفس الوقت على تهيئة المناخ المناسب لتربية أبناء عائلته على ثقافة عثمانية رفيعة، وإلى جانب ذلك، فقد كان هو المحرك لإحياء تلك الثقافة فى مصر، ونقلها إلى زمرة الإداريين الجدد، الذين خرجوا من بين الأهالى، وإلى الطبقة الأرستقراطية الجديدة التى ظهرت نتيجة لحركة التحديث، وحقق نجاحا كبيرا فى ذلك أيضا، ويكون بهذا قد عزز وجود الثقافة التركية العثمانية فى مصر، ودعم نشرها بصورة لم يسبق لها مثيل منذ الفتح العثمانى عام 1517 وحتى بداية ولايته.
كان الجهاز الإدارى القوى، الذى شكله محمد على، يتشكل فى كل أعضائه من المتحدثين بالتركية، ووفقا لأوغلو، فإنه مع مرور الوقت اقتضت الضرورة باتساع الجيش والجهاز الإدارى، وكان ذلك ممكنا باشتراك الطلاب الدارسين من الأهالى ممن يتحدثون العربية، ولهذا السبب أيضا كانت هناك ضرورة من الناحية الإدارية فى ازدواج لغة الجهاز الإدارى، فقد كانت آلية القرار تتشكل باستمرار باللغة التركية، أما عند مرحلة التنفيذ فالتعليمات الصادرة من القمة يجرى إعدادها بالتركية، ثم تترجم إلى اللغة العربية حتى يتيسر تطبيقها ومخاطبتها لجموع الأهالى.
يضيف «أوغلى»، أن اللغة العربية كانت بمثابة اللغة الرسمية الثانية للإدارات المحلية المؤتمرة بأوامر السلطة المركزية، وفى هذا النظام مزدوج اللغة، كانت المكانة العليا للغة التركية، التى هى اللغة الفعلية لحكام البلاد منذ عهد طويل، وأدى استخدام اللغتين بشكل رسمى مع مرور الوقت إلى تأثر إحداهما بالأخرى، فانتقلت بينهما بأعداد كبيرة كلمات وتعابير ومصطلحات تعبر عن معان شتى.
رحل محمد على فى 2 أغسطس 1849، وكان حفيده «عباس باشا» واليا على مصر، بعد وفاة عمه إبراهيم باشا فى حياة والده محمد على، وبرحيل الجد والعم، أصبح «عباس» الوالى الفعلى لمصر كأكبر أبناء أسرة محمد على، ولم يطرأ فى عهده تغيير كبير فى مسألة ازدواجية اللغة «التركية والعربية» فى الجهاز الإدارى للدولة، وبعد مقتله فى قصره بمدينة بنها يوم 13 ليلة 14 يوليو 1854، تولى عمه سعيد باشا الحكم، ومعه حدث التغيير فى ازدواجية استخدام اللغتين التركية والعربية فى جهاز الدولة.
يشير «أوغلى» إلى أنه فى عهد سعيد باشا تضاعف وجود الفرنسيين فى مصر، إذ كان الوالى شغوفا بالثقافة الفرنسية، وكان النفوذ الفرنسى آخذا فى التنامى فى جوانب متعددة، وبدأت اللغة الفرنسية تحظى باهتمام كبير بالمقارنة مع ما كانت عليه من قبل، وإلى جانب ذلك، فإن بعض أفرع القانون الفرنسى بدأت هى الأخرى تأخذ مكانها فى التشريع إلى جانب نظام الحقوق العثمانى، وبهذا احتلت اللغة الفرنسية فى مصر آنذاك مرتبة اللغة الرسمية الثالثة، ولم تعد «التركية» فى عهد سعيد باشا تحتل الصدارة كلغة رسمية، مثلما كانت فى السابق.
يضيف «أوغلى»، أنه تقرر الجمع بين اللغتين التركية والعربية فى الإدارة، بسبب أن غالبية الأهالى تتحدث العربية، وحتى تتاح الفرصة أمام المحاكم للعمل بشكل أفضل، ولكن ذلك أدى إلى ظهور فوضى قانونية، إذ حاول بعض المستغلين الاستفادة من ذلك الوضع، فكانوا إذا أرادوا تغيير حكم محكمة فى أيديهم بإحدى اللغتين، توجهوا إلى محكمة أخرى تستخدم اللغة الأخرى، وطلبوا منها تصحيح الحكم من جديد، ولأجل هذا تقرر توحيد اللغة فى المحاكم، وقصرها على اللغة العربية للحيلولة دون استشراء ذلك النوع من الحيل القانونية، ويذكر الدكتور زين العابدين شمس الدين نجم فى كتابه «مصر فى عهدى عباس وسعيد»، أن «سعيد باشا» أصدر أمرا فى يوم 8 يونيو 1857 بأن تكون الكتابة باللغة العربية فى دواوين الأقاليم وسائر المحافظات والمديريات، ويضيف: «فى 19 يوليو، مثل هذا اليوم، 1858، أصدر سعيد أمرا إلى مجلس الأحكام بأن تكون جميع المخاطبات، فيما بين الدواوين والمديريات والخاصة بالحسابات والإدارة والقضاء باللغة العربية، حتى المكاتبات التى تتطلب العرض على الوالى أيضا، مع ترجمة المكاتبات التركية إلى اللغة العربية، كما أن خلاصات «المجلس الخصوصى» ومخاطباته التى كانت تتم باللغة التركية، تكون باللغة العربية توفيرا لأعمال الترجمة».