توجه الدكتور عبدالعزيز إسحق، المستشار بالسفارة المصرية فى مدينة «ليوبولدفيل» عاصمة الكونغو، إلى منزل «لومومبا» رئيس الوزراء المخلوع، وذلك فى مساء 28 أكتوبر 1960 لاستلام أطفال الزعيم الأفريقى لتهريبهم سرا إلى القاهرة، حسبما تذكر أرملته «بولين لومومبا» فى أول حوار لها مع جريدة «الأخبار» فى 31 يوليو، مثل هذا اليوم، 1964، وشارك عبدالعزيز إسحق فى الحوار، وكشف جانبا من أسرار هذه العملية الدرامية التى طمأنت لومومبا فواصل نضاله حتى اغتياله والتمثيل بجثته يوم 17 يناير 1961.
كان «لومومبا» قائدا لنضال بلاده لتحريرها من الاستعمار البلجيكى، وكان محمد فائق مسؤولا عن الشؤون الأفريقية برئاسة الجمهورية وقتئذ، ويذكر فى كتابه «عبدالناصر والثورة الأفريقية» أن «لومومبا» قاد النضال ضد الاستعمار البلجيكى بدعم من مصر وإعجاب منه بعبدالناصر، وأسس حزب الحركة الوطنية الكونغولية، وفاز بانتخابات عام 1960، وأصبح رئيسا للوزراء، لكن بلجيكا والمخابرات الأمريكية صمموا على إجهاض تجربته، وكان الدكتور مراد غالب سفيرا لمصر وقتئذ فى الكونغو، ويكشف فى مذكراته «مع عبدالناصر والسادات»: «أقدم كازافوبو رئيس الجمهورية على خلع «لومومبا» من منصبه كرئيس للوزراء، ورد لومومبا عليه بعدم الاعتراف به رئيسا، وبدأت الفوضى فى البلاد بإعلان «تشومبى» حاكم إقليم «كاتنجا» انفصاله، وكان أغنى أقاليم البلاد وتتركز فيه غالبية الشركات البلجيكية خاصة العاملة فى المناجم، وبدأت عملية محكمة لمحاصرة لومومبا».
يضيف غالب: «استطاع لومومبا الإفلات من الحصار المفروض عليه، وهرب فى منزل بوسط العاصمة «ليوبولدفيل»، وبعث إلىّ برسالة تعرفنى بمكانه، ووصلت إلى مخبئه، ووجدت حالته سيئة للغاية وعينيه زائغتين»، يؤكد «غالب» أنه كتب برقية فى الحال إلى عبدالناصر، أبلغه فيها أن «لومومبا» على قيد الحياة، ويرغب فى نقل زوجته وأولاده إلى مصر، وتلقى «غالب» الموافقة ، وبدأ فى وضع خطة تهريب الأبناء (أربعة)، وكان بطلها عبدالعزيز إسحق صاحب الملامح الأوربية، حيث تم التسجيل فى جواز سفره بأنه متزوج من كونغولية، وسجل أبناء لومومبا فى أنهم أبناءه ومسافرون إلى لشبونة
تذكر أرملة لومومبا فى حوار الأخبار أن زوجها كتب شهادة إقرار بأن الأولاد ذاهبون إلى القاهرة بناء على رغبته وإرادته الشخصية فى أن يعيشوا تحت رعاية الرئيس جمال عبد الناصر، وتذكر الأخبار أن «إسحق» قام أثناء الحوار بإخراج ملف من درج مكتب، فيه خطاب مختوم بشعار جمهورية الكونغو وبخط لومومبا، يقول فيه إنه سلم الأولاد للمستشار المصرى عبدالعزيز إسحق، وتحدث «إسحق» عن عملية التهريب، قائلا: «لن أنسى هذه المغامرة مررت وسط خمس بوابات أمام كل بوابة دائرية ما يقرب من 60 جنديا وسيلتهم الوحيدة للتفاهم هى الرشاشات، كنت أضع الشهادة فى مكان ما ليتمكن الرأى العام العالمى من الاطلاع عليها لوقدر لى أن أقتل فى العملية بدلا من أن تتهم مصر بخطف أولاد لومومبا»، يؤكد: «كانت كل لحظة تمر علىّ أشعر معها بأن بينى وبين الحياة شعرة واحدة أوضغطا خفيفا على الزناد، وتنطلق عشرات الرصاصات عليِ ومع ذلك كنت مؤمنا بأنه لابد أن أقوم بواجبى القومى، نسيت زوجتى وأولادى مجدى وشمس».
حضر الأبناء إلى القاهرة، وبقى لومومبا يخوض مقاومته، حتى اغتياله يوم 17 يناير 1961، ووفقا لمحمد حسنين هيكل، فى كتابه «سنوات الغليان»، فإن عبدالناصر تلقى مساء 12 فبراير، معلومات تؤكد مقتل لومومبا بالرصاص بعد اعتقاله، وأن الذى اعتقله هو الكولونيل «موبوتو» قائد قواته (الرئيس فيما بعد)، وسلمه فى نفس اليوم إلى عدوه «تشومبى» فى «كاتنجا»، وأكد عبدالناصر للعالم رسميا نبأ مقتل لومومبا، وأعلن أنه يضع أسرته تحت حماية الجمهورية العربية المتحدة، وكتبت السيدة «بولين» زوجة لومومبا خطابا إليه قالت فيه: إننى امرأة لم تتعلم لأن الاستعماريين البلجيكيين حرمونا من فرصة الحصول عليه، لكنى مع إدراكى البسيط أفهم مثل كل امرأة وطنية فى أفريقيا، أنكم أوفى الأصدقاء لشعوبنا، إننى بلسان امرأة - والمرأة هى موضع أسرار الرجل، أؤكد لكم أننا عرفنا الآن أصدقائنا الحقيقيين، والله معك».
وكتب شقيقه «لويس»: «يا صاحب الفخامة.. إذا كان خطابى هذا لايحمل جميع معانى الاحترام الواجب تقديمها لشخصكم، فأرجو ألا يفسر ذلك بقلة العناية، ولكن بأننى أتعامل معكم كشقيق وراع ورجل أفريقى لم يتنازل عن روحه الأفريقية، إن وقوفكم معنا ضربة لكل من أرادوا أن يوقعوا بيننا وبينكم حينما أرادوا إقناعنا أن العربى هو عدو للسود، وأن العرب كانوا أصل فكرة الاتجار ببنى البشر فى تجارة الرقيق، ولقد تأكدوا أن ذلك غير صحيح، ونحن نرى أمامنا أن البرتغاليين وهم شعب مسيحى كانوا هم تجار الرقيق فى بلادنا، وكانوا يقومون بذلك بأمر من ملوكهم».