عرف الإمام أحمد حاكم اليمن أن الشعب اليمنى يتابع عن طرق الإذاعات التطورات فى مصر، فأصدر قرارا ليس له نظير فى تاريخ الدول الحديثة، وهو: «سحب جميع رخص الراديو من كل اليمنيين على اختلاف طبقاتهم»، حسبما يذكر الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل فى كتابه «ملفات السويس»، مشيرا إلى أن هذا القرار صدر فى 1 أغسطس، مثل هذا اليوم، 1952، وأقدم على هذه الخطوة بسبب قيام ثورة 23 يوليو 1952، ولم يكن مضى على قيامها غير أسبوع واحد فقط».
يعطى الدكتور عبدالله فوزى الجناينى، مزيدا عن هذه القصة فى كتابه «ثورة يوليو والمشرق العربى - 1952 - 1956»، مؤكدا: «كان موقف الإمام أحمد من الثورة أشد المواقف العربية غرابة، فعقب اندلاعها أصدر أمرا للشعب اليمنى بعدم الاستماع إلى أجهزة الراديو، وقرر سحب جميع تراخيصها من الأهالى كافة، حيث أمر بمصادرة جميع الأجهزة، وذلك لمنع شعبه من الإطلاع على حوادث مصر»، يذكر «الجناينى» أن حسن شعيب القائم بأعمال المفوضية المصرية فى صنعاء، أرسل إلى وزارة الخارجية المصرية تقريرا (محفوظ ضمن أرشيف البلدان، محافظ اليمن، محفظة 73، وثيقة 22)، يذكر فيه أن «الإمام» أمر عقب قيام ثورة يوليو بمصادرة أجهزة الراديو، وصودر بعضها فعلا، وأنه أمر الأهالى بعدم الاستماع إليها متذرعا بأن الناس تركوا صلاة المغرب والعشاء فى الجماعة للاستماع إليها، وكان هذا الأمر يتكرر دائما عقب حدوث أى اضطرابات فى منطقة الشرق الأوسط».
تعدى الأمر حدود منع الاستماع إلى الإذاعة، حيث يذكر «شعيب» فى تقريره لوزارة الخارجية أن برقية وقعت فى يده أرسلها «الإمام» إلى عماله وحكامه فى أنحاء اليمن، تطالبهم بالقبض على كل يمنى يتحدث عن الثورة المصرية بالخير، ويذكر «الدبلوماسى المصرى» فى رسالته: «إن هذا الموقف الشاذ لم يكن موقف الإمام وحده، بل كان موقف كل المسؤولين فى اليمن، وخصوصا أفراد الأسرة الحاكمة عائلة حميد الدين».
يضيف: «من الواضح أنه كانت وراء موقف اليمن أسباب، وربما كان السبب الرئيسى هو الخوف من أن تتأثر الأجواء فى اليمن بما حدث فى مصر، وهذا ما حدث بالفعل، فقد بلغ قلق «الإمام أحمد» مبلغا كبيرا، وسيطر عليه القلق والخوف عقب تنازل الملك فاروق عن العرش، وكان أهم ما ذكره تعليقا على ذلك عبارتين، أولاهما: «يجب أن يعود فاروق إلى العرش، وسوف يعود مهما كان الثمن، وثانيتهما: «لقد انتهى فاروق، إنها بداية النهاية للحكم الإمامى فى اليمن».
ووفقا لما يذكره «الجناينى»، فإن خوف «الإمام» من ثورة يوليو تأكد عندما رفض رفع التمثيل الدبلوماسى لمصر إلى سفارة، استجابة لرغبة الحكومة المصرية فى 12 أغسطس 1952، حيث رأت الخارجية اليمنية أن الوقت غير مناسب، وقالت: «إن حكومة صاحب الجلالة ملك اليمن المعظم ترى أن المناسبة غير راجحة لديها لرفع تمثيلها مع القطر المصرى الشقيق إلى سفارة»، وبذلك كان اليمن هو الدولة العربية الوحيدة فى المشرق العربى التى لم ترق تبادلها مع مصر عن مفوضية»، يوضح «الجناينى»: «حاول اليمن فيما بعد أن يعدل عن هذه السياسة، ويتعرف عن قرب إلى رجال العهد الجديد فى مصر، وأرسل الإمام فى 5 ديسمبر 1952، سيف الإسلام الحسن شقيقه ورئيس وزرائه إلى القاهرة، وصرح الحسن عقب وصوله، قائلا: إننى قادم لأتعرف على إخوانى العرب، وعقب لقائه بمحمد نجيب صرح بأنه أبلغه تحيات الإمام، وسيمكث فترة بالقاهرة للاطلاع على أحوالها ومشروعاتها».
كان محمود رياض - وزير خارجية مصر من 1964 إلى 1972 ثم أمينا للجامعة العربية حتى عام 1979 - ويذكر فى كتابه «الأمن القومى العربى بين الإنجاز والفشل»، وهو الجزء الثانى من مذكراته، أنه كان ضمن أول وفد لثورة يوليو برئاسة صلاح سالم يسافر فى جولة عربية خلال شهرى يوليو وأغسطس 1954، شملت العراق ولبنان واليمن والأردن، ويروى قصة يبدو منها أن منع اليمنيين من الاستماع إلى الراديو لم يصمد طويلا، يذكر: «عندما ذهبنا إلى البيضا، وفد رجال القبائل لتحيتنا يهتفون باسم جمال عبدالناصر وللقومية العربية، واستمعت إلى بعضهم يذكر اسم أحمد سعيد المسؤول عن صوت العرب، فأدركت قوة الإذاعة ومدى تأثيرها، وكانت المخابرات العامة توافى الإذاعة بالمعلومات عن أحوال اليمن، وأسماء القبائل والمشايخ، فكان أحمد سعيد يتلو أسماءهم ويدعوهم لمقاومة الاستعمار فى جنوب اليمن، وكان اليمنيون يتعجبون لسماع أسماء مشايخهم، واشتهرت قصة رفض القبائل شراء أجهزة الراديو قبل أن يتأكدوا من أنها تبث إرسال صوت العرب، ويصرون على سماع الإذاعة قبل سماع الراديو».