قدم عبدالحليم حافظ، أغنيته الوطنية الجديدة «بلدى يا بلدى»، كلمات، مرسى جميل عزيز، وألحان، كمال الطويل، وقدمت أم كلثوم قصيدة «على باب مصر»، وولدت الأغنيتان فى حفل أقيم بنادى ضباط القوات المسلحة بالزمالك يوم 23 يوليو 1964 بمناسبة ثورة 23 يوليو، وحضره جمال عبدالناصر، وشهد الحفل عاصفة، يذكرها كتاب «موسوعة أغانى عبدالحليم حافظ» للباحث عمرو فتحى، قائلا: «كان من المقرر أن يقدم عبدالحليم أغنية «بلدى يا بلدى» بين الوصلة الأولى والثانية لأم كلثوم، ولكنها لم تكد تفرغ من وصلتها الأولى التى غنت فيها لأول مرة أغنية «على باب مصر» كلمات، كامل الشناوى، وألحان محمد عبدالوهاب، حتى احتلت فرقة رضا المسرح، وبعدها صعدت فرقة أم كلثوم للمرة الثانية لتغنى «إنت عمرى»، كلمات، أحمد شفيق كامل، وألحان، محمد عبدالوهاب، فتأخر ظهور عبدالحليم على المسرح، ليخرج للجمهور قائلا:
طبعا منتهى الجرأة إن واحد يغنى بعد أم كلثوم أو يختم حفلة غنت فيها أم كلثوم.. لكن أنا ما أعرفش الأستاذ عبدالوهاب والست أم كلثوم أصروا إن أنا أختم الحفلة، ودا شرف كبير.. ما أعرفش هو شرف ولا مقلب، مش عارف.. إنما الشرف الحقيقى اللى ما أقدرش أتخلى عنه أبدا، ولو كان عندى أى شىء، هو إن أنا أغنى الليلة ديه كل سنة»..يضيف «فتحى» أن عبدالحليم استهل أغنيته بأن خاطب عبدالناصر بقوله: «سيادة الرئيس، الغنوة اللى أنا هاقولها خدها الأستاذ مرسى جميل عزيز من الميثاق، ومن خطاب سيادتك بمجلس الأمة، وخطاب سيادة رئيس الوزراء بمجلس الأمة عن النقد الذاتى وعن البيروقراطية اللى سيادة الرئيس بيحاربها، وكلنا لازم نحاربها».. يؤكد «فتحى» أن الخطاب المقصود لعبدالناصر كان فى افتتاح مجلس الأمة «البرلمان» 26 مارس 1964.
بعد أيام، بدأت عاصفة أخرى على صفحات «أخبار اليوم»، ففى 1 أغسطس 1964، كتب سعيد سنبل مقاله بعنوان «طبل وزمر..لسنا هذا الشعب»، قال فيه: «حرام أن ينطلق صوت عبدالحليم حافظ..وتتردد ألحان كمال الطويل بكلمات تحولنا من شعب جاد بناء إلى شعب طبل وزمر.. لقد أصبت بخيبة أمل، وبألم، عندما استمعت إلى الأغنية الجديدة «بلدى.. يا بلدى»، إن كلماتها تخاطب المهملين.. الظالمين..العاملين من أجل مصالحهم الشخصية، وتهددهم قائلة: «ونقولك..يا عديم الاشتراكية.. يا خاين المسؤولية ونزمر لك كد هه.. ونطبل لك كده هه»، ورحت أتساءل: هل أُلغى قانون الإهمال؟ لتحل محلها عقوبة جديدة هى الطبل والزمر للمهملين؟».
يضيف «سنبل»: «موضوع الأغنية - كما قيل وكُتب - يتناول النقد الذاتى، والنقد الذاتى معناه أن ينتقد الفرد نفسه، أن يكتشف عيوبه وأخطاءه، ويعمل على التخلص منها، ورغم أن كلمات الأغنية لا تتصل بالنقد الذاتى من قريب أو بعيد، فإنى أرجو مخلصا من مؤلفها مرسى جميل عزيز أن يبدأ بتطبيق النقد الذاتى على نفسه، ويعترف بتفاهة الجمل الخاصة بالطبل والزمر، وتعارضها مع القاعدة الجديدة للمجتمع الاشتراكى، ويحذفها من الأغنية، وفى هذه الحالة، أكون أول المصفقين له، وأول المعترفين بشجاعته، وحرام أن ينطلق صوت عبدالحليم، الصوت الذى ترنم بأناشيد الثورة، وأن تتردد ألحان كمال الطويل، الألحان التى تغنت بالثورة، بكلمات تافهة تحولنا من شعب بناء إلى شعب طبل وزمر».
أما قصيدة «على باب مصر» لأم كلثوم، فكتب عنها الكاتب الصحفى محمد فهمى عبداللطيف مقالا رصينا، قال فيه: «لو أنى مسكت بريشة الكاريكاتير، وأردت رسم صورة لصديقنا الأستاذ كامل الشناوى لوضعته داخل علامة استفهام كبيرة، ولا أزيد على ذلك شيئا، فليس كامل الشناوى فى حقيقته وحياته من بداياتها إلا علامات استفهام تتردد وتتكرر على لسانه كل لحظة، وأتذكر أنه بدأ حياته فى الشعر بقصيدة عنوانها «لماذا؟»، ومن يومها ظلت علامة الاستفهام المحور الذى يدور من حوله فى كل ما ينظم من شعر أو يكتب من نثر، فهو دائما يسأل: من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ وكيف؟ ومتى؟.
ولما سمعت أنه يعد أغنية للقاء قمة ثان بين أم كلثوم وعبدالوهاب، دعوت الله مخلصا أن يجتنب علامات الاستفهام، لأنى أعرف مدى ما يعانى الملحن والمطرب على السواء منها، ولكنى كنت فى قرارة نفسى أعتقد أنه لا يمكن أن يتخلص من حالة صارت طبيعة نفسه وقوام حياته، وصدق ما توقعت، وإذا به يستهل أغنيته متسائلا: أين؟ ومن؟/ وكيف إذن/ أمعجزة مالها أنبياء/ أدورة أرض بغير فضاء؟.. وهكذا تواردت الاستفهامات، فكانت أولى المتاعب لموسيقى عبدالوهاب، وأشهد أن عبدالوهاب بذل جهدا للتغلب على الاستفهامات المتكررة، ولكنه لم يستطع أن يطلق العنان لصوت أم كلثوم، وشىء آخر أتعبه وأعنى تلك السكنات المتتابعة فى وسط كلمات الأغنية، فعند كل سكنة ركن «ركنة» تحبس الصوت الطليق، وأحسست كأنما شخصا وضع يده على فم أم كلثوم وهى تغنى: «لقد شاد بالأمس أهرامه بأيد مسخرة موثقة».
فى 8 أغسطس، مثل هذا اليوم، 1964، كانت كل هذه الانتقادات للأغنيتين، مجالا لمناقشات أوسع من الكاتب والناقد جليل البندارى، فماذا قال فيها؟