لم تكتف «أخبار اليوم»، فى عددها 1 أغسطس 1964، بهجومها ضد أغنية «بلدى يا بلدى» أو«المسؤولية» لعبدالحليم حافظ، فى حفل 23 يوليو 1964، احتفالا بذكرى الثورة، وبحضور الرئيس جمال عبدالناصر، ولم تكتف بانتقاد الكاتب الصحفى محمد فهمى عبداللطيف لأغنية «على باب مصر» لأم كلثوم فى نفس الحفل، «راجع، ذات يوم، 8 أغسطس 2022»، وإنما كانت هناك وقفة أخرى مع الأغنيتين من الكاتب والناقد الفنى جليل البندارى فى مقال طويل وجميل،«أخبار اليوم، 8 أغسطس 1964».
يجمع البندارى فى مقاله بين تذوقه الرفيع، وعمق وطرافة سخريته، وجدية المعنى المضمون، ويبدو ذلك من عنوانه للمقال «شاعر الفضاء.. وشاعر البطيخ.. ونزمر لك كده هه»، وشاعر الفضاء عنده هو كامل الشناوى، أما شاعر البطيخ فهو مرسى جميل عزيز، الذى كان تاجرا للفاكهة بالزقازيق، أما «نزمر لك كده هه»، فمن كلماته فى أغنية «بلدى يا بلدى» أو «المسؤولية».
يبدأ البندارى مقاله بحكمه القاطع، قائلا: «فى لقاء السحاب الثانى «أم كلثوم وعبدالوهاب»، لم يلتق النغم مع الكلمات والأداء، وهذا غريب، وفى لقاء عبدالحليم وكمال الطويل وشاعر الزقازيق والبطيخ، لم يرتفع مستوى الكلمات إلى مستوى الأداء واللحن الشعبى الفولكلورى إلا فى الجزء الأخير من الأغنية»، وبعد أن يؤكد:«هذا رأيى ورزقى على الله»، يطرح حيثيات حكمه بأسلوب الفريد، قائلا: «لو سألنى عبدالوهاب فى أن يلحن الأغنية التالية لأم كلثوم بهذه السرعة لاعترضت وقلت له: لا تلحن لها أغنية قبل عام أوعلى الأقل قبل أن تشبع من «انت عمرى»، فظهور قصيدة «على باب مصر» بعد «انت عمرى» وفى موسم واحد، جعل الناس ينتظرون مذاقها فى حلاوة العنب البناتى بعد موسم البطيخ والشمام، فأذن المستمعين التى تربت على صوت أم كلثوم وأنغام عبدالوهاب، لا تستطيع أن تفرق بين الأغنية العاطفية والوطنية، فهم يطالبون بالحلاوة فى الجملة الموسيقية، سواء كانت هذه الجملة تصور معنى عاطفى أو غير عاطفى».
يوضح البندارى، لماذا أطلق وصف «شاعر الفضاء» على كامل الشناوى، قائلا: «هو شاعر جاجارين «رائد الفضاء السوفيتى»، وقصيدته قطعة من أدب الفضاء، فهو أول شاعر عربى اخترق الحزام الجوى، واستخدم فى شعره دورة الكرة الأرضية فى تنظيم الكون، وله فى كل قصيدة بيت جديد ومعنى جديد لم يطرقه شاعر من قبل، ففى قصيدة «الخطايا»، قال: «حطمتنى مثلما حطمتها/ فهى منى وأنا منها شظايا»، وهذا المعنى لم يطرقه شاعر من قبل، وفى قصيدة «لا تكذبى» قال: «ويضيع من قدمى الطريق»، وهذا معنى أيضا لم يطرقه شاعر من قبل».
يكشف البندارى: «فى فجر الليلة التى أذيعت فيها «على باب مصر» أيقظنى أحد الشعراء المعاصرين ليسألنى سؤالا غريبا، وفى ذكاء سألنى حسن إمام عمر نفس السؤال: ما معنى «أدورة أرض بغير فضاء»، فقلت لهما: «المقصود بالفضاء هو تنظيم الكواكب ومن بينها هذه الأرض، فالأرض لا تدور لمجرد الدوران، وإنما بقواعد وأصول ونظريات علمية، وكامل الشناوى يريد بهذا البيت أن يقول: إنه ما دامت هناك معجزة فلا بد أن يكون لها نبى، وليس مسؤولا أن توجد فى هذا الكون أرض كروية ثم تدور بلا فضاء، وقال لى فنان مشهور: إن أول بيت فى القصيدة الذى يقول: «على باب مصر/ تدق الأكف/ ويعلو الضجيج»، يوحى إليه بغزو مصر، فقلت له: الغزاة لا يدقون الأبواب بالأكف، وإنما يدقونها بالمدافع والقنابل وقاذفات اللهب، وقال لى كمال الطويل: إنه يحسد عبدالوهاب على وقوع هذه القصيدة بين يديه».
ينتقل البندارى إلى أداء أم كلثوم للأغنية، قائلا: «أم كلثوم إذا وقفت على المسرح، وغنت بصوتها الساحر «ريان يا فجل»، يتحول هذا الفجل فى أذانى وحواسى جميعها إلى شىء أشهى من عسل النحل، واستمعت إليها وهى تغنى اللحن الثانى لعبدالوهاب، فلم أستمتع بأم كلثوم، وإن حاولت جهدها أن تخلق من اللحن شيئا يبلغ غاية الإبداع الفنى، فأدته كما ينبغى، ولكن اللحن نفسه لم يخلق لتتغنى به، وسبق وأن استمعت إلى عبدالوهاب وهو يدندن بكلمات هذه القصيدة، فأعجبت باللحن منه هو، ومعنى هذا أنه قام بتفصيل اللحن على صوته، ولم يضع فيه الأبعاد والطاقات التى ينطوى عليها صوت أم كلثوم، فاللحن فى مشروع أم كلثوم جاء منفصلا عن الأداء والشعر. إن كل عنصر من هذه العناصر يصل إلى حد الإبداع، ولكن كلا منها لم يخلق للآخر».
يضيف البندارى: «خُيل إلى وأنا أستمع إلى هذه القصيدة أن عبدالوهاب لم يلحنها، وإنما اكتفى بوضع الموسيقى التصويرية لها، ثم ترك أم كلثوم على المسرح تواجه الناس بموسيقاه والكورس وأندريه رايدر«الموزع الموسيقى».. يختتم البندارى نقده لقصيدة «على باب مصر» بقوله: «قال بعض النقاد إن كلمات القصيدة جافة على ذوق عبدالوهاب وفنه وعوده، وفى رأيى أنها لم تصل فى جفاف كلماتها وألفاظها إلى جفاف كلمات وألفاظ أغنية «المسؤولية» لعبدالحليم حافظ.. وينتقل البندارى إلى تشريح «المسؤولية».. فماذا قال؟