تعود الدكتور سامى الدروبى ألا يغادر القاهرة إلى دمشق إلا بعد أن يستأذن الرئيس جمال عبدالناصر، ويجلس معه، وفى 11 أغسطس، مثل هذا اليوم، 1970، ذهب إلى الإسكندرية للقاء الرئيس، فكانت هى المرة الأخيرة التى يراه فيها، حسبما يذكر فى حواره لـ«لأهرام» 4 نوفمبر 1970.
كان «الدروبى» أول سفير لسوريا فى مصر بعد انفصال البلدين، 28 سبتمبر 1961، والانقلاب على الوحدة التى بدأت فى 22 فبراير 1958، وكان مثقفا عربيا رفيعا، مؤلفا، ومترجما، وكاتبا، وسياسيا مناضلا، ودبلوماسيا، ولد فى حمص 1921، وجاء لمصر مع الوحدة، وعمل مديرا بوزارة الثقافة، ومدرسا بجامعة القاهرة من 1959 إلى 1960، وقدم للمكتبة العربية ترجمات ومؤلفات رائدة فى السياسة والفلسفة وعلم النفس والأدب، أشهرها ترجمته للأعمال الكاملة للأديب الروسى الشهير «ديستوفسكى» فى 18 مجلدا بتعاقد مع وزارة الثقافة المصرية، وأصدرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب، كما ترجم أعمال الأديب الروسى «تولستوى».
«كان ممن يحب عبدالناصر الجلوس والكلام معهم»، وفقا للكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل، فى كتاب «عبدالناصر والمثقفون والثقافة»، إعداد يوسف القعيد، وفى حواره مع «الأهرام»، الذى أجراه الكاتب الصحفى «زكريا نيل» بمناسبة مرور أربعين يوما على وفاة جمال عبدالناصر، يكشف جانبا من أسرار آخر لقاء بينهما.. سأله «نيل»: «عرفنا أن الزعيم الراحل كان يرتاح لمناقشتك، ويعطيك من الوقت أكثر مما يعطيه لغيرك، فما هى قصة آخر لقاء لك معه؟»، أجاب الدروبى: «كان ذلك فى 11 أغسطس الماضى 1970 بالإسكندرية، ذهبت إليه، قال لى: ما هى الأخبار؟ وبابتسامة مشرقة قال: هل تقرأ صحف بعث العراق وتسمع إذاعته؟.. قال: سيدى الرئيس: إنه أسلوب لا أخلاقى.. قال: وهل تعرف السبب فى أننا لم نقابل الإساءة بمثلها؟..قلت: أعرف يا سيدى، فالشعب المصرى الذى يتحمل عن العرب الجانب الأكبر من المسؤوليات، ويحمل وحده أعباء المعركة مع عدونا فى حالة غضب من هؤلاء، الذين جحدوا جميله وأياديه، وتخشى يا سيادة الرئيس أن يضعف إيمان هذا الشعب بأمته العربية.. قال: نعم بالضبط هذا هو السبب.
قلت: سيدى الرئيس: إننى أرجح سبب هذه المواقف المنحرفة إلى الجهل بمعرفة مقومات العروبة، وخصائص القومية العربية.. قال: الوحدة لا يمكن مقاومتها، لأن ذلك يكون ضد طبائع الأشياء، وقد تكون وحدة الأمة العربية عن طريق حماية مصالحها الاقتصادية، فمثلا التكامل الاقتصادى بين الدول العربية ماذا يعنى؟ إنه يعنى تأمين المستقبل الاقتصادى لها، فثروات البترول يذهب معظمها فى بعض الدول العربية نفقات استهلاكية وكمالية، وهذا البعض سيجد بعد 40 أو 50 عاما أن المخزون لديه من احتياطى البترول انتهى، وعليه أن يوازن نفقاته التى تتصاعد بموارد أخرى، ولا يكون ذلك إلا بإقامة الصناعات الوطنية، وتعميق الإنتاج الزراعى، ولا يتأتى ذلك إلا عن طريق الأخذ والعطاء فى البرامج العلمية لنظم التكامل الاقتصادى بين الدول العربية».
قلت: سيدى الرئيس: إن الأمة العربية فى حاجة إلى تجسيد الفكرة العربية فى وجدانها، وهى من أجل ترسيخ مفاهيم القومية العربية فى حاجة ماسة إلى «مركز أبحاث عربى» يدرس ويناقش المقومات الأساسية للقومية العربية، ويتولى كشف خصائص هذه المقومات طائفة من رجال الفكر العربى الملتزمين بعروبتهم وقوميتهم.. قال: نعم، رجال الفكر العربى من كل البلاد العربية يشتركون ويتدارسون فى وسائل تعميق هذه المفاهيم لدى الجماهير العربية، إننى أؤيد ذلك، واقترح تنفيذه فى الحال، ومن أجل أن نحمى ذلك المركز من تعقيدات الروتين الوزارى، لا نريد أن يكون تابعا لأى جهة رسمية، وأقترح أن يكون تابعا لجريدة الأهرام لقدرتها على الحركة والانطلاق، وبعد أن خاضت تجربة ناجحة فى المراكز التى أنشأتها، وعليك أن ترتب اجتماعات مع الأستاذ هيكل لتضعوا نظام إنشاء هذا المركز، وسأعتمد لكم ميزانية فور الانتهاء من وضع مشروعه.
يضيف الدروبى، أنه بعد هذا الحوار سأله الرئيس: «كيف تسير صحتك، وكيف تنظم علاجك، وهل تستعمل الأدوية؟».. وعدد أسماء بعضها، رد الدروبى: «ذهبت إلى أمريكا وأجريت جراحة، ووجدوا عندى فى الشريان التاجى شريانين لا يعملان.. قال: ما هو الدواء الذى تستعمله الآن، هل جربت الدواء «..» وذكر اسمه، وما رأيك فى «حالة»، وذكر اصطلاحا طبيا يتصل بحالات مرضى القلب.. قلت: سيدى الرئيس، أراك محيطا بالتفاصيل، رد: لأننى مثلك مريض بالقلب، وأوصيك أن لا تبوح بذلك، فقد تحملت آلامه القاسية فى صمت، ولا أريد أن يعرف ذلك أحد، إذ إنه قد يؤثر على معنويات الشعب المصرى وهو يخوض معركته، كما أنه يرفع معنويات عدونا، ولذلك أحطناه بالكتمان من أجل المعركة، ومن أجل قضيته الكبرى ومن أجل فلسطين»، واصل عبدالناصر كلامه: «هناك دواء جديد أنتجته اليابان لأمراض القلب، والأطباء السوفيت يقولون عنه: إنه يعمل عمل السحر، سأحضر لك صندوقا منه، ونهض الرئيس وغاب بضع دقائق ثم عاد وبدا عليه الإجهاد، حيث صعد الدرج وعاد ومعه الدواء».