الجريمة عموما تمثل استثناءات وتعكس اختلالات نفسية أو ميولا إجرامية فردية، فى مجتمع طبيعى متعدد ومتنوع، ولا توجد مجتمعات مثالية فى الماضى ولا الحاضر، وتصدر قوانين العقوبات لتطبق على من يخالفون القانون، أو يرتكبون جرائم، وقد تمثل العقوبات رادعا، لكنها لا تمنع الجريمة، ونقول هذا باعتبار الأمر ظاهرة إنسانية مستمرة، لكن على مدى الأسابيع الماضية منذ جريمة مقتل طالبة المنصورة وبعدها جريمة الشرقية، فإن الطبيعى أن الأمر فى أيدى النيابة العامة ثم القضاء، حيث يتم التحقيق بشكل كامل والاستماع إلى الشهود وصولا إلى قرارات وأحكام.
لكن هناك عناصر لم تكن فى الماضى وأضيفت مع اتساع منصات النشر والتعليق تفتح الباب لأى شخص أن يدلى برأيه، لكن الأمر يتجاوز التعليق او الانفعال بالحدث إلى التداخل فى الموضوع، من حيث المبالغة فى نشر تفاصيل عن الجريمة أو العلاقات بين أطرافها، وهى آراء تكون منحازة تتبنى وجهة نظر واحدة، لدرجة أننا نشاهد سجالات لإدانة الضحية أو تبرئة القاتل، ويصل الأمر بالبعض إلى تجاوز التبرير إلى التحريض على الجريمة، واتهام الضحايا أنهم السبب، ويصدر هذا ممن يزعمون الفهم فى العقيدة أو الأخلاق، ويبررون جرائم القتل أو التحرش.
بل ويسارع البعض بنشر فيديوهات الجرائم لدرجة أن رواد مواقع التواصل فوجئوا بفيديوهات للضحية نيرة فى المشرحة وهو مشهد صادم ونشره يمثل جريمة، لكن الفيديو انتشر بشكل كبير، وهو أمر تحقق فيه النيابة، وهو جريمة، لكن نشر وتداول الفيديو يمثل مجموعة جرائم، يصعب التوصل إلى مرتكبيها، والذين يشاركون الجناة الأصليين الجرم.
ونحن أمام ظاهرة تتعلق بمنصات التواصل عندما تتجاوز دورها كأدوات تواصل، وتمثل خطرا عندما تتحول إلى أدوات انتقام وتشهير وتلاعب، واعتداء على الخصوصية، ووصل الأمر بأن يخرج داعية شهير ليبرر القتل بالملابس، دون أن يحاسبه أحد، وعلى نفس الطريق داعية آخر يمارس التحريض بالرغم من أنه منسوب لمؤسسة دينية كبرى، وعدم محاسبة هؤلاء، يسهم فى انتشار هذا النوع من التداخل والادعاء، لدرجة أن عددا من المراهقين أو الشباب ظهروا فى فيديوهات يحرضون على العنف ويبررون القتل، وبعضهم شباب صغير ربما يريد الشهرة بأى ثمن، أو أنه تأثر بآراء كبار ينتسبون زورا إلى الدعوة.
والواقع أن ما جرى مع قضية مقتل طالبة المنصورة، أو فتاة الشرقية، تجاوز كونه موضوعا يثير الاختلاف، إلى لعبة خطرة، يتجاوز دفاع المتهم دوره، ويلجأ إلى تشويه الضحية من خلال اختراع تفاصيل وعلاقات لم تكن موجودة، وأثبتت النيابة عدم صحتها، بل إن بيان النيابة العامة فى قضية الشرقية، ينبه إلى خطورة المبالغة فى النشر بلا أدلة وتحذر النيابة العامة من «اللهث غير المبرر خوضا فى تفصيلات الواقعة وتحليلها وتحليل شخصية المجنى عليها والمتهم، وبواعث ارتكابه الجريمة، دون سند لديهم أو حق لهم يبيح ذلك.. احذروا من هذا التهافت الذى لا يبرره حق المجتمع فى المعرفة والإحاطة، فهذا الحق تحرص النيابة العامة على استيفائه بشفافية وعلانية نسبية مرهونة بسلطتها التقديرية بما لا يمس بسلامة التحقيقات».
نحن أمام حالات من اختراق الخصوصية والتشهير، تتطلب نقاشا وحوارات من مجتمع السوشيال ميديا نفسه، فالقوانين متوافرة وكافية، لكن الخطر من شيوع جرائم التشهير والاعتداء على حقوق أطراف القضايا، وقد يكون الردع فى مواجهة الكبار ممن ينتسبون إلى مؤسسات الدعوة والذين يمارسون التحريض والتشهير، ومع التمسك بحريات النشر، فإن هذا الحق لا ينبغى أن يمثل عدوانا على الآخرين، ويضمن حقوق المجتمع، وخصوصيات الآخرين.