العالم يواجه أزمة مركبة غير مسبوقة فى شكلها ومضمونها، لم تحدث مع الحرب الباردة، ولا مع الحرب العالمية الثانية، فهى حرب متعددة الأطراف، كاشفة عن تشابكات وتقاطعات فى العلاقات تتجاوز الحرب على الأرض فى أوكرانيا إلى صراع متعدد الأطراف، وتبدو بالفعل تفاعلات يصعب التنبؤ بنتائجها على المدى القريب، فلم تتوقع دول الاتحاد الأوروبى وهى تفرض عقوبات على روسيا، أنها سوف تجد نفسها أمام اختبار الطاقة، الحرب التى بدأت مع نهاية الشتاء الماضى تتواصل بينما الصيف يقترب من نهايته ليسلم إلى خريف يلوح حاملا مخاوف، وشتاء تواجه فيه أوروبا أول اختبار لنقص الغاز الروسى، وتضطر لاتخاذ إجراءات للتعامل مع واقع لأول مرة، بجانب تضخم وجفاف يستدعيان إجراءات مالية واقتصادية صعبة.
وليست أوروبا فقط التى تواجه هذا الاختبار، لأن الأزمة تلقى بظلها الثقيل على اقتصادات العالم، وفى القلب منه اقتصادات ناشئة، تضطر فيها هذه الدول لاتخاذ إجراءات اقتصادية للتعامل مع تداعيات الأزمة المركبة.
اللافت فى هذا الوضع، أن كل التصورات التى تتعامل مع هذا الواقع تجد صعوبة فى وضع سيناريو لنهاية هذه التداعيات، أو حتى رسم صورة لطبيعة التداعيات، وهل تتوقف عند هذا الحد، أم أنها قد تفرض تغييرا فى شكل وطبيعة التحالفات القائمة، والتى كان يبدو أنها استقرت بعد نهاية الحرب الباردة، وهل يمكن أن تتغير هذه العلاقات فى قادم الأيام.
ومن أبرز تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، أنها كشفت عن حجم التشابك فى المصالح، والاعتماد الأوروبى الكبير على الغاز الروسى، وأيضا تأثير الحرب على تدفق الغذاء من أوكرانيا إلى دول العالم، حيث تمثل نسبة إنتاج القمح والزيوت من أوكرانيا نسبة كبيرة.
الواقع أن أسعار الغذاء والوقود تضاعفت عدة مرات فى الخارج، وهناك شكاوى لدى كل دول العالم من ارتفاع التضخم وثبات الدخول، بتفاوت حسب شكل وقوة كل اقتصاد، ويظل هذا جزءا من الصورة، لكنه يعكس حجم التشابك والتقاطع فى العلاقات الاقتصادية والتجارية، بشكل يتجاوز الطاقة والغذاء إلى سياق قد يدفع لإعادة شكل التحالفات الكبرى.
وقبل الحرب فى أوكرانيا، كان هناك اتجاه أوروبى لتقارب أكثر مع روسيا، وفى قمة السبع قبل عامين تم طرح إعادة روسيا إلى قمة الثمانى، قبل استبعاد روسيا على خلفية ضم القرم، ويومها قال الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، إن روسيا قد تكون أقرب إلى أوروبا من حيث المصالح والعلاقات، وتم طرح إعادة روسيا إلى دول الثمانى، وكان هذا عاكسا لسياق أوروبى يرى أهمية تقوية العلاقات الروسية الأوروبية.
لكن هذا كله تجمد بعد الحرب الروسية فى أوكرانيا، حيث تحدث الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، فى يوليو الماضى، عما أسماه «ثمن الحرية» من التداعيات الاقتصادية للحرب، والموقف الفرنسى ضد حرب روسيا فى أوكرانيا، وقال أيضا إن الحرب الحالية قريبة من حدود فرنسا وأوروبا عموما، وهو تحول فى المواقف، ربما يستمر لفترة.. ماكرون أيضا يصف الواقع الحالى بـ«عدم اليقين»، وهو تعبير عن غياب التصور الواضح لما يجرى، بل ربما يحمل فى داخله توقعات بتغير المواقف، وهو أمر يظهر على مدى الشهور الماضية وخروج دول عن إجماع الاتحاد الأوروبى، وهناك دول مثل المجر وغيرها تستمر فى علاقاتها مع روسيا فى الغاز أو العلاقات التجارية،
عدم اليقين لا يظهر فقط فى إجراءات ترشيد أو سياسات لمواجهة تداعيات الأزمة، لكن هذا كله يمثل استعدادا للشتاء، لكن إلى أى مدى يمكن أن تستغنى أوروبا عن الغاز الروسى، وهل يمكن أن يؤدى طول فترة الصراع إلى فجوات فى الموقف الأوروبى، أو إعادة بناء تحالفات سياسية واقتصادية، أو أن تتغير المواقف لتسمح بتدخلات تقود إلى حل وسط للأزمة، وهذا يتعلق بموقف الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وروسيا بما يسمح بحل لأزمة تقترب من شهرها التاسع، لكن التوصل إلى وقف لهذا الصراع يعتمد على استعداد أطراف الصراع لتقديم تنازلات لإنهاء أزمة تتجه لأن تتحول إلى أزمة مزمنة، بما يضاعف من تأثيراتها على الاقتصادات والسياسة، لأن البديل للحل هو تغيير فى شكل ومضمون التحالفات الكبرى.