ظل الرئيس جمال عبدالناصر يتنزه طوال ساعة كاملة فى حديقة مقر إقامته بالإسكندرية، ليتمالك أعصابه قبل أن يستقبل وفد منظمة التحرير الفلسطينية، مساء 26 أغسطس، مثل هذا اليوم، 1970، حسبما يذكر صلاح خلف «أبوإياد» أحد الذين حضروا اللقاء، فى مذكراته «فلسطينى بلا هوية»، ونشرت «الأهرام»، خبر اللقاء بصفحتها الأولى يوم 27 أغسطس 1970، وذكرت فيه أنه كان الثانى خلال 24 ساعة، واستمر حتى ساعة مبكرة من صباح 26 أغسطس 1970، وحضره ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير، وأبوإياد، وفاروق قدومى «أبواللطف» من قيادة حركة فتح، وضاحى جمعان قائد منظمة الصاعقة، وإبراهيم بكر من المستقلين، وهايل عبدالحميد ممثل حركة فتح فى القاهرة.
كان التوتر يسود علاقة منظمة التحرير بالقاهرة، لقبول مصر مبادرة روجرز، بينما رفضتها المنظمة، وأصدرت لجنتها المركزية قرارا يدين قبولها، ويُعرض بالذين قبلوها، حسبما يذكر الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل فى مقاله «عبدالناصر والمقاومة الفلسطينية»، الأهرام، 25 ديسمبر 1970، مضيفا: «حدث تجاوز خطير، حيث بدأت «جريدة فتح»، الناطقة بلسان اللجنة المركزية وليس بلسان«فتح»، فى نشر مقالات وتعليقات تتضمن هجوما لا يمكن قبوله ضد مصر وعبدالناصر، ووصل بها الأمر إلى حد وصف القبول بمقترحات روجرز على أنها مؤامرة من جانب الذين قبلوها، وتدينهم بالعمالة الإمبريالية والصهيونية، ثم بدأت تعليقات فيها مساس بعبدالناصر كالقول:«إذا كان الزعماء تعبوا من الكفاح، فعليهم أن يخرجوا من الساحة ».
يكشف أبوإياد فى مذكراته، أن مجلس المقاومة المركزى انقسم بشأن الموقف الذى ينبغى اتخاذه من عبدالناصر، فهل ينبغى أن نتصادم معه؟.. يضيف: «أجابت الغالبية، التى تؤيد السياسة المغامرة على هذا السؤال بالإيجاب، أما حركة فتح ومنظمة الصاعقة الموالية لسوريا وبعض المستقلين، فصمموا على عدم قطع الجسور مع مصر، ومنذ ذلك قررنا إرسال مندوبين إلى عبدالناصر سعيا وراء نمط تعايش، وثمة أسباب عديدة كانت تدفعنا إلى القيام بهذا السعى، فلم يكن بوسعنا من الناحية الاستراتيجية أن نسمح لأنفسنا بقطع علاقاتنا مع أقوى البلدان العربية، وكان وزنها الدولى الداخلى والمحلى ثمينا بالنسبة إلينا، وفضلا عن ذلك كنا نثق فى وطنية عبدالناصر، ونعرف أنه لن يخوننا، لأنه سبق له وأعلن جهارا بأنه يتفهم تماما رفض المقاومة للقرار 242، الذى لا يستجيب إلى تطلعات الشعب الفلسطينى ».
حضر قادة منظمة التحرير إلى القاهرة، ومن 18 إلى 20 أغسطس 1970، اجتمع أبوإياد وأبواللطف مع محمد حسنين هيكل، الذى كان وزيرا للإرشاد القومى «الإعلام » إلى جانب رئاسته لتحرير الأهرام، وتذكرالأهرام، يوم 24 أغسطس: «إن سلسلة اجتماعات بدأت فى القاهرة مع ممثلى منظمات المقاومة، وعقد الاجتماع الأول بين محمد حسنين هيكل وياسر عرفات، ودام ثلاث ساعات وبمشاركة أبوإياد، وقدومى، وهايل عبدالحميد ».
مهدت هذه الاجتماعات للقاء عبدالناصر، يوم 26 أغسطس 1970، ويكشف أبوإياد ما جرى فيه، قائلا: «استقبلنا عبدالناصر ببعض الفتور ثم قال لنا على الفور: تنزهت فى حديقتى طوال ساعة لأتمالك أعصابى، وأنا استقبلكم ».. يضيف أبوإياد: «كان غاضبا من الهجمات التى كان يتعرض لها فى منشورات «فتح »، وأظهر لنا بعض نماذجها، وكانت مبعثرة على مكتبه، ثم أضاف أنه لا يحق لنا أن ننتقده قبل أن نعرف البواعث، التى دفعته إلى قبول مبادرة روجرز»، يؤكد أبوإياد: «دامت المحادثات أكثر من سبع ساعات، أشار خلالها إلى أنه ليس هناك إمكانية واحد بالألف فى أن يتحقق مشروع السلام الأمريكى، لأنه يعلم مقدما أنه ليس لدى إسرائيل النية مطلقا فى احترام التزاماتها، وإعادة الأراضى المحتلة بكاملها، لكنه سيواصل برغم ذلك جهوده للتوصل إلى تسوية سلمية، وبانتظار ذلك فإنه لا بد له من كسب الوقت ليستعد للحرب، التى تبدو للوهلة الأولى أمرا لا مناص منه، وأضاف أنه خلال زيارته الأخيرة لموسكو، طلب تسليم مصر صواريخ سام 7، وحصل عليها بعد أن هدد بالاستقالة، ثم أفضى لنا بأنه سيستغل وقف إطلاق النار السارى حاليا لنضع هذه الصواريخ على طول قناة السويس». يذكر أبوإياد: «روى لنا عبدالناصر أن القادة السوفيت اندهشوا فى بادئ الأمر من انضوائه تحت راية مشروع أمريكى، وعرضوا عليه كبديل مشروعا تقدمه له موسكو وواشنطن سوية، فرفض موضحا لمحادثيه أنه يريد أن «يحرج » الولايات المتحدة، التى التزمت لأول مرة منذ حرب يونيو 1967 بجلاء إسرائيل الكامل تقريبا عن الأراضى التى غنمتها، وأضاف، أن ميزة القرار 242 هو أنه صدق على حق العرب فى استعادة أراضيهم المفقودة بإقرار دولى، ثم استطرد عبدالناصر يقول بلهجة ساخرة وهو يلتفت نحو ياسر عرفات: «كم تظن أنه يلزمكم من السنين كى تدمروا الدولة الصهيونية، وتبنوا دولة موحدة ديمقراطية على كامل فلسطين المحررة؟ وأخذ علينا ممارستنا لسياسة غير واقعية، وقال: إن دويلة فى الضفة الغربية وغزة خير من لا شىء ».