سافر «نوبار باشا» من القاهرة إلى الإسكندرية ليعرض على الخديو إسماعيل أسماء الحكومة التى اختارها، طبقا لتكليف له من الخديو، كان الأول من نوعه فى تشكيل الحكومات بمصر، حيث كان الحاكم هو الذى يترأس كل شىء يعاونه مستشارون يختارهم هو، حسبما يذكر«نوبار» فى مذكراته، مضيفا أنه اقترح اسم الإنجليزى «ولسون» وزيرا للمالية، وكان هذا الاختيار لأجنبى فى هذا المنصب الحساس طبيعيا، ورياض باشا وزيرا للداخلية، وعلى مبارك وزيرا للمعارف العمومية، وراتب باشا للجهادية، واحتفظ هو بوزارتى الحقانية والخارجية إلى جانب رئاسته للوزارة.
يكشف «نوبار» أن الخديو طلب منه أن يغير من الشكليات فى مسألة تشكيله للحكومة، وذلك بأن يكون بدلا من موافقة الخديو على تقرير يقدمه نوبار بشأن تشكيل الحكومة، يكون هناك خطاب أو منشور يوجهه هو بنفسه إلى نوبار تعبيرا عن مبادرة منه هو شخصيا من أجل تشكيلها، وبناء على ذلك وجه «إسماعيل» خطابه لتشكيل الوزارة، يوم 28 أغسطس، مثل هذا اليوم، 1878، ووفقا لعبدالرحمن الرافعى فى الجزء الثانى من كتابه «عصر إسماعيل» قال الخديو فى هذا الخطاب:
«إنى أطلت الفكرة وأمعنت النظر فى التغيرات التى حصلت فى أحوالنا الداخلية والخارجية الناشئة عن تقلبات الأحوال الأخيرة، وأردت فى وقت مباشرتكم لمأمورية تشكيل هيئة النظارة الجديدة التى فوضت أمرها إليكم أن أؤكد لكم ما توجه قصدى إليه، وثبت عزمى عليه، عن إصلاح الإدارة وتنظيمها على قواعد مماثلة للقواعد المرعية فى إدارات ممالك أوروبا، وأريد عوضا من الانفراد بالأمر المتخذ الآن على قاعدة فى الحكومة المصرية سلطة يكون لها إدارة عامة على المصالح تعادلها قوة موازية من مجلس النظار، بمعنى أنى أروم القيام بالأمر من الآن فصاعدا باستعانة مجلس النظار والمشاركة معه، وعلى هذا الترتيب أرى أن إجراء الإصلاحات التى نبهت عليها يستلزم أن يكون أعضاء مجلس النظار لبعضهم كفيلا بأن ذلك أمر لازم لا بد منه».
بعد هذه المقدمة، ينتقل الخديو إلى تحديد المهام الموكلة للمجلس وهى: يجب على مجلس النظار أن يتفاوض فى جميع الأمور المهمة المتعلقة بالقطر، ويرجح رأى أغلبية أعضائه على رأى الأقل عددا، فيكون حينئذ صدور قراراته على حسب الأغلبية، وبتصديقى عليها أقرر الرأى الذى تكون عليه الأغلبية.
- تعيين المديرين والمحافظين ومأمورى الضبطيات يكون بالمداولة بين الناظر التابعين هم لإدارته وبين رئيس المجلس، وما يستقر عليه الرأى يعرض علىّ بواسطة رئيس المجلس لأجل تصديقنا عليه.. الناظر الذى يكون المأمورون وأرباب الوظائف السالف ذكرهم تحت إدارته مباشرة له الحق فى توقيفهم عند الاقتضاء عن إجراءات وظائفهم، وذلك بعد اتفاقه مع رئيس هيئة النظار، وأما انفصالهم عن وظائفهم فلا يكون إلا بعد اتفاق الناظر التابعين له مع رئيس المجلس والتصديق عليها منا.
للنظار أن ينتخبوا المأمورين ذوى المناصب العليا اللازمين لإدارتهم، وأن يعرضوا ذلك علينا للتصديق عليه منا، وأما الوظائف الصغيرة فيكون تعيين المستخدمين اللازمين لها بخطاب أو قرار من ناظر الديوان، وأعمال كل ناظر تجرى فى الأمور التى تكون من خصائصه لاغير، وأرباب الوظائف والمستخدمون فى كل فرع من فروع الإدارة لايتلقون الأوامر إلا من رئيس المصلحة التى هم مستخدمون بها، وتابعون لها، ولايجب عليهم طاعة أمر غيره، وينعقد المجلس تحت رياستكم، وجعلت مسؤوليته عليكم.
يستخلص الرافعى من هذا الخطاب، أن مجلس النظار هو هيئة مستقلة من ولى الأمر تشاركه فى الحكم وتتحمل مسؤوليته، وأعضاؤه متضامنون فى المسؤولية، وقراراته بالأغلبية، ورئاسته من حقوق رئيس المجلس فلا يرأسه الخديو.
يروى «نوبار» ما دار فى الكواليس حول إصدار خطاب التكليف له قائلا إن سكرتير الخديو أعرب له عن ملاحظة تتعلق بالجملة المرتبطة بمنهج السير الذى سطره الرسول للأمراء وحكام الشعوب والذى تحدث فيه عن الشورى قبل اتخاذ أى قرار يخص الأعمال التى تمس مصالح الناس، يضيف نوبار: «لما كان يريد حذف هذه الجملة، رفضت بشكل قاطع وأكدت لسكرتيره أن الإصلاحات فى تركيا فشلت كلها لأنها تقريبًا كانت نسخا طبق الأصل من المؤسسات الأوروبية، لكن الإصلاحات التى كان سموه «إسماعيل» فى سبيله إلى تبنيها والتى كانت تتلخص كلها فى الصيغة التى عرضتها، وهى: «الوالى يحكم مع ومن خلال مجلس للوزراء» هى نفسها ما اتبعه الرسول نفسه، وبالتالى كانت تحمل مصادقته، وكل مسلم كان سيتفهم هذا الأمر وهذا سيكون شرفا للوالى»، يؤكد نوبار: «نقل السكرتير ملاحظاتى هذه إلى الوالى، وكنت عند خيرى باشا وهو رجل متدين بعمق ولكن بعيدًا عن التطرف ويتمتع بثقة كبيرة لدى الوالى، وقلت له: «كيف وأنا مسيحى أتكلم باسم تقاليد وصفات الرسول والوالى هو الذى يرفض».