رحل ميخائيل جورباتشوف عن 91 عاما، آخر رئيس للاتحاد السوفيتى السابق، والذى انتهى على يديه الاتحاد السوفيتى، وأعلن اعتزال الرئاسة نهاية عام 1991، احتجاجا على ضغط بوريس يلتسين ليقر بتفكيك جمهوريات الاتحاد الروسى، تسلم يلتسين القيادة، وسلم ما تبقى من الاتحاد إلى الفوضى وبدا أن روسيا نفسها فى سبيلها للمجهول، قبل أن يأتى بوتين ليعيد ترميم روسيا.
جورباتشوف رحل فى ختام صيف ساخن، وسط حرب روسية فى مواجهة أوكرانيا والغرب ممثلا فى أمريكا والاتحاد الأوروبى، وفى عام 2016 أصدر مذكراته بعنوان «جورباتشوف فى الحياة».. وخلال حفل توقيع كتابه اعترف ميخائيل جورباتشوف بأنه يشعر بمسؤوليته عن انهيار الاتحاد السوفيتى فى عام 1991، وقال: «لا أستطيع أن أعفى نفسى من المسؤولية».. لأننى لم أتمكن من مقاومة «المحيطين بى، وخصوصا بوريس يلتسين».
جورباتشوف يعترف بأنه كان مسؤولا عن إنهاء القوة العظمى الثانية، ولم تنجح «البريسترويكا والجلاسنوست»، - المصارحة والمكاشفة- وهى شعارات جورباتشوف التى قدمها لتطوير الاشتراكية، فى إنقاذ الاتحاد من مصيره المأساوى، كان جورباتشوف يراهن على النجاح فى الحفاظ على الاتحاد السوفيتى وتجديد شبابه، واحتفت به أمريكا والعالم الغربى كرجل شجاع يعمل لتطوير بلاده، وأصبح نجما خلال الثمانينيات فى الإعلام الغربى والأمريكى تحديدا باعتباره البطل الذى ينهى الخصومة والحرب الباردة بعد نصف قرن ويوقف السباق النووى، لكن الاحتفاء انتهى ووجد يلتسين يقول له: كفى، لا نريد اتحادا سوفيتيا.
انهار جدار برلين عام 1989، ليترك ما يشبه الزلزال بعد عامين تفكك الاتحاد السوفيتى، وأعلنت الولايات المتحدة مصطلح «النظام العالمى الجديد» لتبقى قطبا وحيدا، ورافق ذلك نظريات عن انتصار نهائى للنموذج الرأسمالى الغربى وأبرز من بشر بهذا كان فرانسيس فوكوياما فى كتابه « نهاية التاريخ»، واعتبر أن انتقال المظاهر الأمريكية إلى روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفيتى السابقة جعلت من محلات كنتاكى وأفلام هوليوود رايات للنظام العالمى.
جورباتشوف، انسحب تحت ضغط بوريس يلتسين، الذى كان سكيرا عصبيا نافد الصبر، فاسدا، ودوره انتهى بسرعة، اختفى هو أيضا بعد دور قصير، ليتسلم منه رئيس وزرائه فلاديمير بوتين، لتبدأ دورة أخرى من فصول التاريخ، انتهت الحرب الباردة وحل مكانها عشرات الحروب الساخنة فى العالم، بعضها شنته الولايات المتحدة تحت شعارات الحرية والديمقراطية وحفظ السلام ومكافحة الإرهاب.
جورباتشوف يكشف فى مذكراته آخر فصول الحرب الباردة، وكيف تحول تحت الأضواء إلى ألعوبة.. كان المراقبون يظنون أن جورباتشوف هو العميل الأمريكى، لكن بوريس يلتسين كان هو الرقم صفر فى معادلة تفكيك الاتحاد السوفيتى، وتكشف الكثير من الأوراق واعترافات المسؤولين التى ظهرت خلال السنوات الماضية أن يلتسين هو من نفذ خطط التفكيك، وأن أمريكا صورت لجورباتشوف أنها تشجع انفتاحه وخططه لتطوير الاشتراكية، وراهنت على بوريس يلتسين لوضع الفأس فى رأس الاتحاد واتخاذ الخطوة الأخيرة.
يلتسين كان بطل ما جرى فى أغسطس 1991، عندما أعلن أنه يواجه انقلاب المحافظين، وكان يطيح بآخر أعضاء يتمسكون بوحدة الاتحاد، وهو ما يعيد جورباتشوف التذكير به، ويقول إنه كان يرى «ضرورة المحافظة على الدولة، ويعارض أن يحل «كيان هلامى مكانها»، يقول جورباتشوف: «أنا مسؤول عن ذلك، لم يعفنى أحد من عملى، ورحلت بنفسى، إذ لم أستطع التغلب عليهم، يقصد يلتسين وأنصاره».
أجبر يلتسين، جورباتشوف بشكل مهين فى 26 ديسمبر 1991 على توقيع قرار مجلس السوفيت الأعلى لينهى الاتحاد السوفيتى، لينتبه جورباتشوف بعد فوات الأوان إلى لعبة يلتسين، وقال «البلاد كانت تسير فى طريق الحرب الأهلية وأردت منع حدوث هذا».
يلتسين أطاح بكل من عارضه، وأعاد تشكيل مجلس السوفيت من الموالين، واضطر جورباتشوف للانسحاب، ليستكمل يلتسين تسليم روسيا إلى المافيا، واستقدام شركات التفكيك الأمريكية، لتنهى عملية التفكيك».
جورباتشوف أراد القول إن يلتسين هو الرقم «صفر»، يلتسين انتخب عام 1991,وعام 1996, واستقال فى 31 ديسمبر 1999، واعتذر أنه لم يحقق أحلام الروس، والواقع أن فترة حكم يلتسين كانت مظلمة فى التاريخ الروسى الحديث لم يشهد الروس مثلها حتى أثناء الاحتلال النازى أثناء الحرب العالمية الثانية.
وسلم السلطة لفلاديمير بوتين رئيس الوزراء الذى قام بعمل الرئيس حتى انتخابه عام 2000، ليعيد بناء الاقتصاد ويعالج آثار فترة يلتسين.
منذ اعتزال جورباتشوف ويلتسين ورحيله عام 2007, جرت تحولات كثيرة، استعاد الدب الروسى الكثير من قوته وأعادت الصين بناء امبراطورية اقتصادية بهدوء، فيما توقف النظام العالمى وتشعب وتداخلت وتقاطعت الجغرافيا والسياسة، لإعادة توزيع النفوذ والقوة.
ميخائيل جورباتشوف رحل وهو يشعر بالندم، وحاول أن يبعد عن نفسه شبهة التواطؤ لكنه كان الرجل صفر، الذى وضع أول معول فى جدار الحرب الباردة، ورحيله تزامن مع حرب أخرى تتشابه وتختلف، وتحمل سيناريوهات جديدة لا تزال غامضة.