رجع الخديو توفيق من الإسكندرية إلى القاهرة، فبدأ على الفور فى تنفيذ خطته للقضاء على نفوذ الحزب العسكرى، وفقا لعبدالرحمن الرافعى فى كتابه «الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزى».. والمقصود برجال الحزب العسكرى هم، أحمد عرابى ورجاله فى الجيش المصرى.
يؤكد الرافعى، أن الخديو أعد خطته أثناء فترة المصيف، وكان قوامها: «تفريق وحدات الجيش ونقل الفرق الموالية للحزب العسكرى من العاصمة «القاهرة»، لكى يستبدل بها فرقا أخرى موالية للخديو، فأصدر داود باشا يكن وزير الحربية أمرا بأن ينقل «الآلاى الثالث» من المشاة «آلاى القلعة»، الذى كان يرأسه إبراهيم بك حيدر إلى الإسكندرية بدلا من «آلاى الإسكندرية»، وأن يأتى هذا إلى القاهرة مكانه.
يكشف «عرابى» فى مذكراته: «اضطرب ضباط الآلاى الثالث، وذهبت بهم الظنون والشكوك كل المذاهب، وقالوا إن الحكومة لم تقصد من ذلك الإجراء سوى الانتقام منهم، وكان قد تردد على الألسنة أن فى النية إغراقهم فى كوبرى كفر الزيات كما حصل للأمير حليم باشا، والأمير أحمد باشا بن إبراهيم باشا فى عهد سعيد باشا»، ووفقا للرافعى، فإن «حادثة الغرق» تتلخص فى أن سعيد باشا أقام بالإسكندرية سنة 1858 حفلة دعا إليها أمراء البيت الخديوى، فلبوا الدعوة من بينهم الأمير أحمد باشا رفعت، وفيما كان الأميران عبدالحليم وأحمد رفعت عائدين إلى القاهرة بقطار خاص مع حاشيتهما، سقطت العربة التى تقلهما فى النيل عند كوبرى كفر الزيات، فغرق الأمير أحمد رفعت، ونجا الأمير عبدالحليم، وكان لهذا الحادث ضجة كبيرة، إذ ذهبت أقوال الناس فيه مذاهب شتى، وقيل إن سقوط العربة فى النيل كان متعمدا لإغراق الأميرين.
اتفق «ضباط الآلاى» على رفض الإذعان لأمر وزير الحربية، والامتناع عن مغادرة القلعة، ويذكر «الرافعى»: «لما جمع إبراهيم بك حيدر قائد الآلاى الضباط وتلا عليهم أمر الوزير أعلنوا جميعا أنهم يرفضون الإذعان له، فكتب إلى وزير الحربية يخبره بذلك، واعتزم عرابى وصحبه تحريك الجيش والسير به إلى «سراى عابدين» فى شكل مظاهرة عسكرية لإملاء إرادتهم على الخديو، لكى يضعوا حدا للحالة القلقة التى وصلت إليها البلاد، ولإحداث الانقلاب الذى أرادوه».
كانت الأوضاع تزداد سخونة بدرجة تؤدى إلى المواجهة بين «عرابى» والخديو توفيق، ففى 8 سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1881، حسبما يذكر «داود بركات» فى كتابه «الثورة العرابية بعد خمسين عاما - رؤية صحيفة الأهرام 1931-1932»: «اجتمع الضباط وأصدقاؤهم للبحث، وذلك فى جلسة شديدة الاضطراب حتى أن المتطرفين اتهموا عرابى بالخيانة، ولكن عرابى أعلن أنه سيذهب فى الغد إلى عابدين مع الذين يريدون مرافقته وأنه سيطلب هناك من الخديو عزل رياض باشا «رئيس الحكومة» ودعوة مجلس النواب وزيادة عدد الجيش»، ويذكر «عرابى» فى مذكراته: «لما رأينا كثرة الدسائس وشدة الضغط من الحكومة وعدم التصديق على القوانين العسكرية التى تم تنظيمها، وعدم الشروع فى تأليف مجلس النواب الذى وعدنا الخديو بإنشائه، أيقنا أن الحكومة تماطلنا فى تنفيذ الطلبات الوطنية، وصممنا على تجديدها فى صورة مظاهرة وطنية شاملة للعسكريين والأهالى الذين أنابونا عنهم فى المجادلة عن حقوقهم وتأمينهم على الأنفس والأموال والأعراض».
يضيف عرابى، أنه قام بمخاطبة جميع الآلايات البيادة والسوارى والطوبجية الموجودة فى القاهرة بواسطة فن الإشارة العسكرية، للاستعداد للحضور إلى ميدان عابدين فى الساعة العاشرة صباحا من يوم 9 سبتمبر سنة 1881 لعرض طلباتنا العادلة على الحضرة الخديوية، ويذكر: «كتبت إلى ناظر الجهادية ليخبر الخديو بأن جميع الآلايات ستحضر إلى ساحة عابدين فى الساعة المذكورة لعرض طلبات عادلة تتعلق بإصلاح البلاد وضمان مستقبلها، ثم كتبت إلى قناصل الدول، مؤكدا لهم أن لا خوف البتة من تلك المظاهرة على رعاياهم لأنها متصلة الغاية بأحوال البلاد الداخلية».
اضطرب الخديو فور تلقيه نبأ هذه «المظاهرة المسلحة»، وبذل جهودا لعدم إتمامها منها، وفقا للرافعى، فقام بإرسال ياوره الخاص طه باشا لطفى إلى عرابى وصحبه ليقنعهم بالعدول عن هذه المظاهرة لكنهم رفضوا، فاعتزم الخديو إقناع رؤساء الجند بنفسه فذهب ومعه رئيس الحكومة رياض باشا وأحمد خيرى باشا رئيس الديوان الخديوى إلى مركز آلاى فى قشلاق عابدين، وجمع الضباط والجند وخاطبهم برفق ولين، قائلا: «أنتم أولادى وحرسى الخصوصى، فلا تتبعوا التعصب الذميم، ولا تقتدوا بأعمال الآلايات الأخرى»، فأجابوا بالسمع والطاعة وتظاهر على بك فهمى قائد الآلاى بالخضوع والبقاء على ولائه للخديو، ولكنه كان يضمر غير ما يظهر.