ظل الفريق محمد أحمد صادق، رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية، داخل السفارة المصرية فى العاصمة الأردنية عمان، لتنفيذ المهمة التى كلفه بها الرئيس جمال عبدالناصر وهى وقف القتال بين الجيش الأردنى والقوات الفلسطينية التى امتدت إلى أكثر من محافظة أردنية، والمعروفة تاريخيا بـ«مذابح أيلول الأسود».
يؤكد «صادق» فى مذكراته: «ظللت ثلاثة أيام داخل السفارة، ومن الطابق العلوى كنت أراقب مسرح العمليات، وأجريت من خلال ضابط الاتصال المصرى اتصالات مباشرة مع عدد من قادة المقاومة الفلسطينية، وبدأت عملية إبلاغ الرسائل إلى ياسر عرفات أبوعمار، عن طريق إبراهيم الدخاخنى، الملحق العسكرى فى السفارة المصرية، ضابط الاتصال حول شروط وقف إطلاق النار».
كان «عبدالناصر» وقتئذ فى مرسى مطروح، وحسب محمود رياض، وزير الخارجية وقتئذ، فى مذكراته «البحث عن السلام والصراع فى الشرق الأوسط»: «كان الرئيس قد توجه إلى مرسى مطروح لقضاء إجازة لمدة عشرة أيام بعد أن ألح عليه الأطباء بأن تكون الإجازة شهرا كاملا نظرا لحالته الصحية، ولكن ما كاد الرئيس يقضى يومه الأول فى مرسى مطروح، حتى أدرك الأبعاد الخطيرة التى تتجه إليها الأزمة الأردنية الفلسطينية، وهكذا قطع إجازته على الفور مطالبا بأن تبرق إليه السفارة المصرية فى الأردن بتطورات الموقف أولا بأول».
تكشف السيدة تحية، قرينة جمال عبدالناصر، فى مذكراتها «ذكريات معه»: «مكثنا ثلاثة أيام زار فيها الرئيس القوات المسلحة فى مرسى مطروح، وفى يوم السبت - 19 سبتمبر مثل هذا اليوم عام 1970 - غادرنا بالقطار للإسكندرية، وفى الطريق أثناء سير القطار وفى المحطات، كان الأهالى ومعهم أولادهم يقفون لتحية الرئيس، فنظر لى وقال: إننى أشتغل من أجل هؤلاء، قلت: إنهم فى مظهر أحسن من قبل، فرد: أريد أن ينال هؤلاء الأطفال فرصة التعليم والعلاج والمظهر كخالد ابننا، لم يحن الوقت بعد»، تؤكد «تحية»: «بقينا فى الإسكندرية حتى يوم الاثنين - 21 سبتمبر - لم أره يستريح، وكل وقته كان مشغولا بمتابعة أخبار الاعتداء على الفلسطينيين فى الأردن».
كانت الأحداث تتطور بسرعة كبيرة، وشهدت، كما يقول محمود رياض، أنباء عن وصول نحو 25 طائرة فانتوم أمريكية إلى قاعدة «إنسرليك» فى جنوبى تركيا، بالإضافة إلى تحركات للأسطول السادس الأمريكى إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، ووفقا للمجلد السابع من «الوثائق الفلسطينية العربية لعام 1970» الصادر عن «مؤسسة الدراسات الفلسطينية»، فإن يوم 19 سبتمبر 1970 ،شهد تفاعلات عديدة من جمال عبدالناصر لوقف القتال وهي:» أرسل برقية إلى الملك حسين يطلب منه وقف إطلاق النار، وتمكين الفريق محمد صادق من مقابلة ياسر عرفات، وأبلغه أن الفريق صادق يضع نفسه فى خدمة جهد عاجل لوقف إطلاق النار، ولسد الطريق أمام الحركات المشبوهة للأسطول السادس الأمريكى، فى البحر المتوسط»، كما أرسل برقية إلى ياسر عرفات يطلب فيها بوقف إطلاق النار حقنا للدماء وتمكين الفريق صادق من التنسيق معه.
فى نفس اليوم «19 سبتمبر»، رد الملك حسين على برقية عبدالناصر، شرح فيها تطورات الوضع فى الأردن وما قام به الجيش الأردنى وورد فيها: «لذلك أبادر على الفور إلى الاستجابة إليكم وسأمر بوقف إطلاق النار فى عمان، وسأحيط مبعوثكم العزيز بكل الدعم والتأييد متطلعا إلى وقفة شريفة مماثلة من الفريق الآخر، ولو أن التجارب علمتنا أن القيادات فيه لا تملك السيطرة على العناصر التابعة لها، وأن الحرص من جانبهم على الوفاء بالعهود والمواثيق ليس دوما بالحجم الذى ترضونه وتتمنون».
وصدر نداء من ياسر عرفات إلى قواته بوقف إطلاق النار، جاء فيه: «استجابة لنداء من الرئيس جمال عبدالناصر لإيقاف إطلاق النار تعلن الثورة الفلسطينية أنها على استعداد لاتخاذ الترتيبات اللازمة لإيقاف إطلاق النار حتى يتسنى للفريق محمد صادق القيام بالمهمة التى أوفد من أجلها».
وأصدرت مصر تصريحا رسميا حول اعتبار أى تدخل أمريكى فى المنطقة عملا معاديا للأمة العربية، كما أرسل عبدالناصر برقية إلى الملك حسين حول وجوب التزام القوات الأردنية بوقف إطلاق النار جاء فيه: «إن آخر التقارير التى تلقيتها من الفريق محمد صادق تظهر لى أن هناك مخاطر كبيرة كامنة فيما يجرى الآن فى عمان، وأن عناصر من الجيش الأردنى ما زالت تواصل إطلاق النار رغم ما تلقيته من تأكيدات جلالتكم، وذلك فى نفس الوقت الذى أعلم فيه أن قيادة اللجنة المركزية لتحرير فلسطين قد قبلت بوقف إطلاق النار، إننى أرجو تدخل جلالتكم الشخصى والفورى لكى تلتزم وحدات الجيش الأردنى، إننى أتمنى من كل قلبى أن تتخذوا من القرارات الفورية ما هو كفيل بوضع حد لما يجرى الآن».