تأهب الخديو توفيق للعودة إلى القاهرة بعد هزيمة «جيش عرابى» على أيدى القوات الإنجليزية فى التل الكبير، 13 سبتمبر 1882، ودخولها القاهرة يوم 14 سبتمبر إعلانا باحتلالها.
كان توفيق فى الإسكندرية أثناء فترة الحرب، وتلقى رسائل المهنئين واستقبال وفودهم فى سراى رأس التين.
كان احتلال مصر أصبح واقعا، وكان توفيق وأعوانه يحتفلون به استمرارا لخيانتهم، وفى حسابات هذه الخيانة أنهم حققوا انتصارا، ويحتفلون به.. وهو التصرف الذى يسخر منه عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزى»، قائلا: «الواقع أنه لم يكن ثمة ظفر ولا انتصار إلا للجيش البريطانى، وأن الخديو لم يعد إلى عاصمة ملكه إلا بحماية الإنجليز، وفى ظلال سيوفهم ورماحهم، وإذا كان قد تغلب على عرابى وصحبه، فإنه فى الوقت نفسه قد أفقده العرش بهاءه ومجده».
ركب «توفيق» قطارا خاصا صباح الاثنين 25 سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1882 ليعود إلى القاهرة، وفقا لأحمد شفيق باشا فى الجزء الأول من مذكراته.. يتتبع «شفيق» وقائع الرحلة كشاهد عليها بوصفه أحد كبار الموظفين فى معية الخديو.. يقول: «استقل توفيق مركبته وبجانبه قنصل إنجلترا، من سراى رأس التين فى موكب حافل تحف بعربته قوة من خيالة الهنود برماحهم، وسوارى من الإنجليز والحرس الخديوى، على حين كانت الشوارع مزدحمة بالجماهير من أجانب ومصريين، والمحطة مكتظة بالمودعين من العلماء والذوات وكبار الموظفين، وبمجرد وصول سموه محطة الإسكندرية أطلقت المدافع إيذانا بالسفر فتحرك القطار، ولقى فى كل محطة مر بها ترحيبا من الأهالى، وشاهد كثيرا من معالم الزينة والفرح».
فى القاهرة أعدت الحكومة احتفالا فخما لاستقبال الخديو شارك فيه كل الذين قدموا فروض الولاء والطاعة للإنجليز.. يتذكر «سليم النقاش» مشاهد هذا الاحتفال فى الجزء السادس من كتابه «مصر للمصريين»، قائلا: «تواردت الجماهير الكثيرة إلى المحافظة أفواجا، وكان فى طليعتهم فريق الأمراء والأعيان والعلماء والأعلام وعمد البلاد ووجهاؤهم مرتدين الملابس الرسمية، وكانت المحطة قد فرشت بالبسط الفاخر والطنافس الثمينة، ونثرت فيها الرياحين والأزهار، وانتظمت العساكر الإنجليزية صفوفا من المحطة إلى الشارع المؤدى إلى نزل شبت ثم منه إلى مخفرة عابدين، ومنها إلى الجهة الغربية إلى سراى محمود بك شقيق الخديو إلى سراى الإسماعيلية».
وصل «توفيق» وركبه وحاشيته ورئيس وزرائه شريف باشا، ونظاره، فى الساعة العاشرة والنصف صباحا.. يصف «النقاش» مشهد وصوله قائلا: «استقبلهم جمهور الحضور بالإجلال والتعظيم، وتقدم «رياض باشا» للقاء الخديو وتبعه سلطان باشا «رئيس مجلس النواب»، وتلاه لفيف من العلماء، وأطلقت المدافع التى كانت معدة فى محطة السكة الحديد، ثم تلتها مدافع القلعة وصدحت الموسيقى بأنغام السلام الخديوية المخصوص.. وبعد ذلك تقدم الشيخ عبدالهادى الإبيارى ودعا له، فأمن عليه الحاضرون، ثم تقدم «رياض باشا»، ونطق بمثل هذا الدعاء نطقا مختوما بقوله: «فليعش الجناب العالى مؤيدا بالنصر والإجلال»، ثم توالت أصوات الدعاء من كل جانب وصوب، وبعد أن لبث فى المحطة زمنا قليلا سار فى مركبة خصوصية وإلى يساره «الدوق كونوغت» نجل ملكة إنجلترا، وأمامه الجنرال ولسلى قائد الجيش البريطانى، والسير إداورد مالت المعتمد البريطانى، وسار وراءه الفرسان الإنجليز وياورانه، وتبعه».
وفيما يزعم «شفيق باشا»، أنه رغم كل هذه الحفاوة «كان الألم باديا على وجه الخديو من رجوعه إلى عاصمة ملكه فى ظل الرماح الإنجليزية»، يذكر «الرافعى»: «الموكب الذى حمل الخديو من المحطة كان طابعه الاحتلال، وكانت ظواهره مهينة فلم يركب مع الخديو فى مركبته سوى الدوق أوف كونوت وجلس على يساره، والجنرال ولسلى والسير مالت وجلسا أمامهما، واصطفت الجنود الإنجليزية على جانبى الطريق من المحطة إلى شارع فندق شبرد، ومنه إلى قسم عابدين، ومنه غربا إلى سراى الأمير محمود باشا، شقيق الخديو، ثم إلى سراى الإسماعيلية، وبلغ عددها نحو 5 آلاف جندى فكان اصطفافهم على هذا النحو وبهذه الكثرة إيذانا بأن الخديو دخل عاصمة ملكه فى حماية الجيش الإنجليزى أو فى أسره».
يؤكد الرافعى: «لا غرابة أن الوطنيين شبهوا هذه العودة برجوع الملك لويس الثامن عشر إلى فرنسا حين دخل الحلفاء باريس سنة 1815، كما شبهوا ذهابه «توفيق» من قبل إلى الإسكندرية فى يونيو 1882 بفرار لويس السادس عشر إلى «فارين» إبان الثورة الفرنسية».
فى سراى الإسماعيلية أطلقت المدافع ذخيرتها إعلانا بوصول توفيق سالما، حسب وصف سليم النقاش، ويذكر شفيق: «أقيمت الزينات ثلاث ليال على دور الحكومة ومنازل الأهالى، وأطلقت الألعاب النارية».