كانت الساعة الحادية عشرة، من صباح 2 أكتوبر، مثل هذا اليوم عام 1945، حين هتف صوت نسائى لأول مرة فى الإذاعة المصرية: «هنا القاهرة»، كانت صفية المهندس هى صاحبة هذا الصوت، واستكملت عباراتها بتقديم الفنان محمد عبدالوهاب فى مواله: «فى البحر لم فتكم فى البر فتونى/ بالتبر لم بعتكم بالتبر بعتونى»، حسبما يذكر الكاتب والناقد جليل البندارى، فى مقاله الأسبوعى «ليلة السبت» بجريدة «أخبار اليوم، 16 مايو 1964».
كان الحدث كبيرا، فلأول مرة تقتحم المرأة المصرية مجال الإذاعة منذ بداية إرسالها الرسمى يوم 31 مايو 1934، غير أن ما وراء الحدث كان الأكثر إثارة، فبالرغم من أن المرأة المصرية سبق وأن قطعت أشواطا فى كسر التابوهات التقليدية التى حاصرتها فيما يتعلق بالغناء والتمثيل، وبالرغم من أن صفية نفسها وحسب قولها فى حديث تليفزيونى نادر لها مع الفنان سمير صبرى، كانت فى فريق التمثيل بجامعة فؤاد الأول، بالرغم من كل ذلك، إلا أن رغبتها فى العمل كمذيعة خضع للجدل دينيا، وهذا ما يكشف عنه «البندارى» فى مقاله «سد على الجبل وسد آخر على الهواء»،
استوحى البندارى عنوان مقاله من حدث كبير كانت تعيشه مصر وهو الانتهاء من المرحلة الأولى فى بناء السد العالى، فقصد به «سد على الجبل»، أما «سد على الهواء» فكان المقصود به الإذاعة، وكانت صفية تستعد كأقدم مذيعة لإطلاق برنامج ضخم بعنوان «30 سنة إذاعة» تقدمه على مدى خمس ساعات يوم 31 مايو 1964، وكشف «البندارى» ما سوف تقدمه، وسط لوحة قلمية عن شخصيتها، وأسرار دخولها الإذاعة.
يذكر «البندارى» من واقع ما ذكرته هى له، أنها تخرجت فى قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، وتعرف عليها المذيعان محمد فتحى وعبدالوهاب يوسف، وطلبا منها أن تنضم إلى قسم المذيعين، وكان والدها الدكتور زكى المهندس، فى ذلك الوقت عميدا لكلية دار العلوم وعضوا فى مجمع اللغة العربية، وما كاد يعلن عن رغبة ابنته، حتى ثار بعض الأعضاء فى المجمع، وقاد العضو الدكتور منصور فهمى جبهة الرفض.
لم يتعرض مقال «البندارى» للخلفية التاريخية لموقف منصور فهمى، والذى كان استمرارا لتراجعه التام عما جاء فى رسالته للدكتوراه من جامعة السوربون عام 1913، وكان ضمن أول دفعة مبعوثين أرسلتهم الجامعة المصرية إلى فرنسا عام 1908، وأثارت رسالته «حال المرأة فى التقليد والتطور الإسلامى»، وترجمت فيما بعد بعنوان «أحوال المرأة فى الإسلام»، ضجة هائلة وصلت إلى حد اتهامه بالإلحاد.
تذكر «صفية» لـ«البندارى»: «قال منصور فهمى بصوت مرتفع: كيف تسمح لابنتك بأن يظهر صوتها فى الإذاعة؟! فسأله زكى المهندس: وماذا فى هذا؟! رد فهمى: صوت المرأة عورة»، يذكر «البندارى»: «انقسم أعضاء المجمع اللغوى إلى فريقين، فريق يؤيد اشتغالها بالإذاعة ويتزعمه محمد العشماوى، الذى كان وزيرا للمعارف، وفريق يعارض ويتزعمه منصور فهمى، غير أنها تركت أعضاء المجمع يتناقشون جلسة بعد جلسة، حتى فوجئوا بها وهى تهتف: «هنا القاهرة».
ومن المواقف الطريفة التى روتها لـ«البندارى»، أنها كانت تدرب ثانى مذيعة انضمت إلى الإذاعة وهى تماضر توفيق، على كيفية تقديم الأغانى، ففتحت تماضر الميكرفون وقالت: «هنا القاهرة، والآن أقدم لكم أيها السادة أغنية: حبايبى كتير يحبونى/ لكن انت اللى....» ثم تعثر لسانها عند الكلمة التالية، ولم تستطع أن تقرأ كلمة «فاكرنى»، فسألت صفية على الهواء: «اللى إيه يا صفية؟»، وضحكت المذيعتان على الهواء، وفى اليوم التالى كتب أحد النقاد يهاجم المذيعتين فى مقال بعنوان «ما هذه الضحكات اللؤلؤية التى تنشرها مذيعاتنا على الهواء؟».
بدأت صفية فى تقديم برنامجها اليومى «إلى ربات البيوت» منذ 1947، ويعد من درر البرامج الإذاعة المصرية والعربية على مدى تاريخها، ويعيد الدكتور محمود خليل أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة أسباب نجاحه إلى سرين، قائلا فى مقاله «أسرار صفية المهندس»، بجريدة «الوطن، 30 مايو 2022»:» السر الأول، واقعية الموضوع الذى تناقشه وموضوعيتها الواضحة عند معالجته، فأغلب المشكلات الأسرية والاجتماعية التى تصدت لها ارتبطت برسائل وصلتها من مستمعات أو مستمعين، وكانت السيدة القديرة تجيد اختيار الرسائل التى تحمل موضوعات جديرة بالطرح والنقاش، نظرا لما تعبر عنه من مشكلات عامة، وتبرع بعد ذلك فى عرض أبعادها وتفاصيلها، وكشف مكمن الخلل فيها، وطرح العلاج الواقعى لها، فإذا أضفت إلى ذلك لغتها الرصينة والبسيطة فى الوقت نفسه فلك أن تتخيل سلطان المحتوى الإعلامى الذى كانت تقدمه على عقل المستمعين، سواء على مستوى المعلومة أو على مستوى اللغة.
أما السر الثانى فيتعلق بوعيها بالتقاليد الاجتماعية التى تحكم العقل والوجدان لدى المصريين، فكل المعالجات والحلول التى قدمتها امتازت بنزاهتها، وأخذ سمات وطبيعة الأسرة المصرية وما يحكمها من تقاليد فى الاعتبار.