توافد الناس إلى «قصر الجزيرة» ثلاث ليال، منذ 25 سبتمبر 1882، لتهنئة الخديو توفيق بهزيمة الثورة العرابية، حسبما يؤكد عرابى فى مذكراته، دراسة وتقديم الدكتور عبدالمنعم الجميعى، وأمام مهنئيه تحدث عن «محمد سلطان باشا» رئيس مجلس النواب، قائلا: «هذا هو الرجل الذى أخلص لنا فى السر والعلانية، وأنعم عليه بالوسام المجيدى الأول، وأمر بإحضاره فوضعه على صدره بيده أمامهم»، وفقا لأحمد باشا تيمور فى مقال «سلطان باشا»، «كتاب- 130 عاما على الثورة العرابية- عايدة العزب موسى».
فى 4 أكتوبر، مثل هذا اليوم، 1882، منحه الخديو عشرة آلاف جنيه، وفقا لأحمد شفيق باشا فى مذكراته، وجاء فى أمره لنظارة المالية:«بالنسبة إلى ما أظهره سعادة سلطان باشا من الصداقة لحكومتنا الخديوية، ومعارضته للعصاة فى جميع أمورهم وعزائمهم بالمخاطرة بحياته، وإلى ما حصل له بسبب ذلك من الضرر والتعدى منهم على شخصه وأقربائه وموجوداته، ومقدار جسيم من مشروعاته، استحق المكافأة من الحكومة، فبناء على ما عرضه علينا مجلس نظارنا، أمرنا بأن يعطى بوجه الاستثناء لسعادته مبلغ عشرة آلاف جنيه من خزينة الدولة، تعويضا للأضرار التى لحقت به ومكافأة لسعادته».
كان سلطان باشا رمز خيانة الثورة، وبعد أن كان أحد قادتها الكبار، انقلب عليها وساند الخديو والقوات الإنجليزية، ووفقا لتيمور: «بعد دخول الإنجليز القاهرة، أرسله الخديو نائبا عنه، وأطلق يده فى التصرف فى الأعمال فوصلها ليلا من طريق بورسعيد، واستبد بالأمور أربعة أيام حتى حضر النظار إليها، وباشروا أعمالهم، وتاه وتجبر فى هذه الأيام الأربعة، وأمر بالقبض على كثيرين ممن كان له بغية فى القبض عليهم وإذلالهم، ومنهم حسين باشا الشريعى، ونسى له سابق فضله عليه، وذلك لخلاف وقع بينهما إبان قيام الفتنة».
يصفه الإمام محمد عبده ساخرا بقوله: «هذا الهمام الوطنى»، ويكشف فى مذكراته أنه فى 27 أغسطس 1882 خرج فارسان بدويان من الإسكندرية، وهما من عائلة شهيرة بالفيوم، تنتسب لقبيلة «أولاد على»، وقبض عليهما بالقرب من معسكر فى كفر الدوار، ومعهما منشورات من «سلطان باشا»، ورسائل منه إلى رؤساء القبائل، يدعوهم إلى ترك «عرابى» والالتحاق بالجيش العثمانى، الذى جاء لإخضاع «العصاة»، واعترف «الفارسان» بأن جنديا يسمى «جيل» حمل ثلاثين ألف جنيه من القائد الإنجليزى «سيمور» ليلحق بالأستاذ «بالمر»، ليستميل معه عربان غزة، وحمل معه رسائل من الخديو وسلطان باشا لرؤساء العربان بالشرقية، ولما عرف سلطان أن توزيع النقود باسم الإنجليز لا يفيد، وزعها باسم الخديو والسلطان العثمانى، واختار لبث الأفكار «الحاوى الطحاوى» أحد ثقاة «عرابى»، والمبالغ التى تدفع للأفراد تتفاوت من جنيهين إلى ثلاثة.
يؤكد محمد عبده: «كان مركز الدسائس والمخابرات فى الإسكندرية بمكتب «قسم المخابرات العسكرية»، يجتمع فيه كثير من موظفى الحكومة المصرية ومن المقيمين بمصر، وكان روح الجميع سلطان باشا».. يضيف: «أوقد نار الفتنة فى البلاد، وجمع لها وقودها وحطبها حتى امتد لهبها وعم جميع الأنحاء، ثم هرب من طريقها، حينما خاف أن يلذعه لسان لهبها»، يؤكد: «نال المكافأة، ليتعلم كل مصرى هذه الطريقة المفيدة لكسب الشرف ونيل الإحسان أولا وأخيرا».
أى لغز فى شخصية «سلطان باشا» جعله هكذا؟.. يذكر عبدالله نديم فى مقال بعنوان «الثورة العرابية»: «لما ترأس أبوسلطان على مجلس الأعيان «النواب»، اعترضت على عرابى فى انتخابه، وأطلت فى عتابه، وقلت له إنه تلميذ مدرسة الظلم الوبيل، وتربية الخديو إسماعيل، فقال: لم تعد بعتبك ما فى قلبى، ولكن لا بد للصياد من صحبة الكلب».. ويقول محمد عبده: «عندما أحس أن عرابى يلتمس المعين على إنشاء مجلس النواب، ظن وصدق ظنه أن عرابى لا بد أن يصل إلى ما يريد يوما ما، فمن الحزم أن يتفق معه فى البداية، ليكون له النصيب الأشرف من الفائدة فى النهاية، فكان أول من مد يده إليه».
فى كتاب «التاريخ السرى لاحتلال إنجلترا لمصر» تأليف الإنجليزى وصديق العرابيين «بلنت»، يقول: إن سلطان باشا كان رجلا ذا كبرياء له ثروة واسعة وجاه عريض، وكان يسمى ملك الوجه القبلى بين كبار الملاك، ويرى أن من حقه لهذا السبب زعامة الفلاحين، وكان ينظر إلى عرابى نظرة الرعاية التى يتعطف بها الكبير على الصغير، وكان يرى فيها أداة لتحقيق أغراضه، لكنه لم يكن يتوقع أن عرابى سيأخذ مكانه بين الجمهور، وصارت المسألة عنده عنادا بعد أن كانت طموحا.
تدافع عنه ابنته «هدى شعراوى»، إحدى رائدات الحركة النسائية، وتذكر فى مذكراتها: «أبى هو الذى حذر منذ وقت مبكر مما يمكن أن يحدث نتيجة الاندفاع فى مواقف متطرفة، وغلب الاندفاع على صوت العقل، فكانت تلك النتيجة السيئة»، ويؤكد «تيمور»: «انعكست آماله التى كانت ترمى إلى تنصيبه فى منصب كبير، وفترت نفسه، وكثرت همومه، وانحرف عن الإنجليز، وطفق يذمهم بعد أن كان لهجا بمدحهم، والثناء عليهم فى كل مجلس يجلسه، واعتزل الناس فجعل إقامته بالصعيد».