"السرقة للصبح فى صوامع القمح".. هكذا وصف أحد نواب البرلمان فساد عمليات توريد القمح للشون والصوامع، وذلك بعد أن شكل مجلس النواب لجنة لزيارتها ومتابعة عملها ومراقبتها بعد ضبط قضايا الاستيلاء على المال العام.
ومن هنا نتسأل: كيف يتم الاستلاء على المال العام من خلال صوامع القمح؟ ومن المسئول عن ذلك؟، ومن تسبب فيه؟، وكيف تتم عمليات الفساد؟، وما هو حجم الخسائر المالية؟، وما هو حل هذه القضية؟.. كلها استفهامات تحتاج إلى إجابات، وهو ما نوضحه فى السطور التالية.
بدأ الحديث عن الفساد فى شون القمح بعدما تمكنت إدارة مباحث التموين بالقليوبية من ضبط المسؤولين عن شركة للصوامع بمنطقة قليوب، لقيامهم باستغلال قرار الدولة بدعم أسعار القمح المحلى، من خلال الاتفاق مع أعضاء اللجنة المشرفة عن استلام وتخزين القمح بالصوامع، بإثبات أن كمية القمح التى تم توريدها وتخزينها (59,999,840 طن)، وبفحص الصومعة محل الواقعة، تبين أن الأقماح المخزنة فعليا داخل الصومعة مقدارها (47,200 طن)، وأن نسبة العجز لما هو مثبت بمحضر الغلق مقداره (12,799,84 طن) بقيمة (35,839,552 جنيه).
وبعد تلك الواقعة شكل البرلمان لجنة تقصى حقائق، لزيادة الصوامع فى جميع أنحاء الجمهورية، وفى أول زيارة لأحدى الصوامع على طريق "مصر – الإسكندرية"، تبين أن تلك الصومعة التى تعاقدت معها أحدى شركات وزارة التموين لتخزين القمح ليس لها سجل تجارى أو بطاقة ضريبية، أى أن الوزارة تعاقدت مع كيان وهمى.
كما اكتشفت اللجنة البرلمانية تلاعب فى الكميات الموردة من القمح، لافتة إلى وجود زيادة وهمية فى القمح المورد تقدر بـ"20 ألف طن"، تقدر قيمتهم بـ55 مليون جنيه.
وفى ثاني زيارة للجنة البرلمانية لأحد الصوامع بالفيوم تبين أن هناك تلاعب فى كميات القمح المورد للصوامع، حيث تم الاستيلاء على 64 مليون جنيه، وذلك بعد تدوين كميات من القمح بأسماء وهمية فى كشوف القمح الواردة لمخازن الشون.
واستنادًا إلى تلك المعلومات نجد أن اللجنة البرلمانية وجدت جرائم استيلاء على المال العام في أول زيارتين فقط تقدر بـ119 مليون جنيه، مما يتيح لنا أن نقول أن حجم الفساد في شون القمح مستشرى لدرجة كبيرة.
ووفقا للوقائع المضبوطة، نجد أن عملية الاستيلاء على المال العام من خلال صوامع القمح عملية معقدة وتدخل فيها أطراف عديدة، وتأخذ شكلين.
الشكل الأول: تسجيل كميات وهمية من القمح بالصوامع واختلاس قيمتها، والإفلات من تسليم الكميات الموردة للمطاحن بادعاء تلف الكميات التى تم تسجيلها بطريقة وهمية، ويتناسب هذا النوع أكثر مع الشون الترابية نظراً لأنها غير مجهزة، ومعروف مسبقاً أن نسبة فقد وتلف المخزون من القمح فيها كبير.
الشكل الثانى: خلط القمح المحلي بالقمح المستورد الذى يقل سعره (من 800 لـ 1000 جنيه) عن القمح المحلى المدعوم – بحسب ما أكد خبراء اقتصاديون ونواب بلجنة تقصى الحقائق، وبهذه العملية يتم الاستيلاء على الدعم الموجه للفلاحين.
ووفقاً لتصريحات عدد من النواب أعضاء اللجنة البرلمانية لتقصى الحقائق في مخالفات توريد القمح، فإن حجم الاستيلاء على المال العام فى هذه القضية يقدر بـ5 مليار جنيه فى آخر عامين.. ولذا نتساءل: ماذا كانت هى احتياطات الحكومة لمنع حدوث تلاعب فى توريد كميات القمح؟.
نعم.. الحكومة اتخذت احتياطيات لمنع التلاعب فى توريد القمح هذا العام فى "جزئية" منع خلط القمح المحلي بالقمح المستورد، حيث طالبت أن يكون التوريد بموجب الحيازة الزراعية وأن يتم منح الفلاح دعماً يقدر بـ1300 جنيه على الفدان، حتى تتأكد أن الموّرد لديه أرضاَ ويقوم بتوريد محصولها وحتى تضمن وصول الدعم لمستحقيه، لكن البرلمان تدخل وطالب بأن يتم استلام القمح من الموردين دون الحيازة الزراعية بحجة تكدس السيارات أمام شون القمح، ومن هنا استجابت الحكومة لطلب البرلمان نظراً لكم الاستجوابات وطلبات الإحاطة المقدمة ضدها فى هذا الشأن.
لكن.. لماذا تصرفت هكذا الحكومة وأرضت البرلمان؟، وهنا يكمن السر في وقت توريد القمح، حيث أعلنت الحكومة بدأ موسم توريد القمح 14 أبريل 2016، وهذا التاريخ له دلالة كبير حيث يشير إلى فترة دراسة مجلس النواب لبيان الحكومة قبل التصويت على منحها الثقة في 20 أبريل 2016، وعندما حدثت أزمة تكدس سيارات الغلال أمام الشون في أولى أيام فتح باب التوريد لعدم حمل الموردين الحيازات الزراعية، تدخل البرلمان وطالب الحكومة بإنهاء هذا التكدس، فاضطرت الحكومة لتسلم القمح دون الحيازات الزراعية وفى زمن قياسى لا يكفى لفحص الأقماح وكشف عمليات خلطها بالأقماح المستوردة.
واستنادًا إلى المعلومات السابقة يمكننا أن نقول أن الحكومة فعلت ذلك حتى تنال ثقة البرلمان وألا تتهم بالفشل في عشرات الاستجوابات وطلبات الإحاطة المقدمة من النواب حول تباطؤ استلام القمح.
ووفقاً للوقائع المذكورة فإن مثلث الاستلاء على أموال دعم الفلاح يتمثل في: (مسئولون بالشون والصوامع – مسئولون بوزارة التموين - تجار فاسدون يقومون بخلط القمح المستورد بالمحلى)، ومن هنا نحمل الحكومة مسئولية إهدار المال العام، لعدم وضع احتياطات وتدبير كافية تمنع التلاعب في هذا الملف، كما يتحمل وزير التموين "المسئولية السياسية" عن هذا الفساد.
وبعد كشف أبعاد الأزمة، يمكننا أن نقول أنه أصبح من الضروري تغيير منظومة دعم القمح وليس إلغائها بما يضمن وصول الدعم لمستحقيه من الفلاحين، حيث إن الدعم بهذا الطريقة لم يصل لمستحقيه ولم يحقق الهدف منه، حيث قررت الحكومة دعم القمح المحلى حتى يتم تحقيق الاكتفاء الذاتى منه فضلاً عن توفير العملة الصعب من خلال تقليل استيراده، إلا أن ما حدث هو استمرار استيراد القمح من الخارج والاستلاء على الدعم أيضا، وإرهاق ميزانية الدولة.
ولعدم تكرار الأزمة مستقبلاً، يجب قصر استيراد القمح على جهات حكومية معينة، فضلاً عن وضع قواعد صارمة تمنع التلاعب في توريد الأقماح، وسن تشريعات تُغلظ عقوبة الاستلاء على المال العام، بالإضافة "ميكنة" العمل بالجمعيات الزراعية والشون حتى يتم استلام الاقماح من الفلاحين بسهولة، ومنع التكدس الموسم المقبل، فضلاً عن الاستمرار في خطط الدولة لبناء صوامع حديثة تقلل الفاقد من مخزون القمح، وتشديد إجراءات الحكومة الرقابية لمنع التلاعب مستقبلاً.