اشتهر الفنان محمد الكحلاوى بأغانيه الدينية، بعد أن كان مطربا شعبيا يسرح بموال الصبر فى القاهرة والإسكندرية وبحرى وقبلى والبلاد العربية فى أربعينيات القرن الماضى، فكيف حدث له هذا التحول؟ وماذا جرى لموال الصبر الذى أقلع عن غنائه؟
يتتبع هذه المسألة الكاتب والناقد الفنى جليل البندارى، فى رحلة تاريخية مبسطة فى مقاله «موال الصبر له قصة» بجريدة «أخبار اليوم» 10 أكتوبر، مثل هذا اليوم، 1964، مشيرا إلى أن موال الصبر قاله شاعر من شعراء وفلاسفة الشعب الحفاة الذين يرددون الشعر على الربابة فى المقاهى والموالد والأفراح، والتقط «الكحلاوى» ما فيه من أبيات ومعان، ثم غناه للناس، وبعد سنوات تاب الله عليه من الخمر والقمار والخناق وصداقات البلطجية وفتوات عماد الدين، وتردد على مسجد السيدة زينب ليؤدى فريضة العشاء ثم يستمع إلى الدرس الدينى فى خشوع.
يذكر «البندارى»، أن «الكحلاوى» ترك أصدقاءه المشاكسين والمشاغبين والفتوات وبعض أفراد عصابة فؤاد الشامى، وأخذ أصدقاء جددا من كبار الموظفين وضباط الشرطة والعلماء وأئمة المساجد وخدمها، وبعد أن كان يسهر مع الأخضر والزلمة وغيرهما من الذين يكونون حكومة خارجة على القانون تحكم شارع عماد الدين بالعصى والسكاكين وزجاجات البيرة المليئة بالرمل، أصبح يستقبل كل ليلة مجموعة من الضباط وحراس الأمن من أمثال زكى علاج، مأمور مركز إمبابة، ثم يختلفون على من يتولى الإمامة فى أوقات الصلاة.
يكشف «البندارى»، أن «الكحلاوى» رزق بالبنات، وتمنى أن يرزق بولد، فلما أصبح محسوب السيدة زينب، رزق بأول ولد أسماه محمد، ثم أقام حفلة لمحاسيب الست، وتولى فرش مقامها بالسجاد وعلق فى سقفه النجف، وسمع محاسيب السيدة نفيسة أنه أصبح يفرق كل فلوسه فى مقام السيدة زينب، فتملكتهم الغيرة وسحبوه إلى مسجد السيدة نفيسة، وما كاد يتردد على هذا المسجد حتى رزق بثانى ولد وأسماه أحمد.
وزع نفسه فى صلاة العشاء، ليلة فى السيدة زينب، وليلة فى السيدة نفيسة، ثم أدى فريضة الحج، وعاد ليجد نفسه محرجا إذا ردد مواويل الصبر والحب والغرام، وبنى مسجدا بمنطقة البساتين بالقرب من الإمام الشافعى، وألحق به مدرسة لتعليم الأطفال القراءة والكتابة والقرآن الكريم، وبنى إلى جانب المسجد مدفنا له.
عبر «البندارى» عن رأيه فيما جرى للكحلاوى قائلا له، إن هذه الأحداث طورت أخلاقه وتصرفاته وصداقاته، كما طورت ألحانه وأغانيه ومواويله من عشق الجسد إلى عشق الروح ومن الغزل فى النساء إلى مدح الرسول والتقرب لأهل البيت، يوضح «البندارى» مصير موال الصبر، قائلا: «ترك الكحلاوى مواويل الصبر والحب والغرام والشكوى والنواح لتلميذه شفيق جلال»، يذكر أن موال الصبر بالذات قاله شاعر حافى القدمين منذ عشرات السنين، وعندما قاله كان الموال هكذا: «ليه ياطا قيتى تميلى من على راسى / فكرتينى بالحبايب كنت أنا ناسى / وإن طال غيابك عنى لاكتبك قاسى / وأحول البحر بالفنجان على راسى/ وأصحن الصبر والصوان على ضراسى».
ثم يقول: «واعلم الصبر يصبر على صبر حبيب جارنا / وأقول يا صبر صبرك عليه حتى يجى جارنا / إن كان غيرنا حفى واحنا اللى مررنا / الله يهون عليك واحنا يصبرنا / يا خوخ خانونا الحبايب واحنا لم خنا / يا لمون لامونا العوازل واحنا لم لمنا / يا تمر حنة رحلنا من منازلنا».
يضيف «البندارى»: «يستمر الشاعر الشعبى القديم فى مواله إلى النهاية، فجاء الكحلاوى منذ أكثر من عشرين عاما واختصر مقدمة الموال واكتفى بأن يبدأ غناءه من هذا البيت: «أنا بعلم الصبر يصبر على صبر حبيب جارنا»، وما كاد الكحلاوى يعتزل هذا النوع من الغناء حتى تلقى تلميذه شفيق جلال هذا الموال وسرح به مرة أخرى فى كل مكان».
دخل المطرب الشعبى محمد طه، على خط موال الصبر، بشكل مختلف، يشرحه «البندارى» قائلا: «عارض محمد طه موال الصبر بموال جديد عن الصبر»، يذكر «البندارى» أن محمد طه قال له: «لو الصبر بيتعلم كان أيوب اداله دروس خصوصية لحد ما خد الليسانس»، ثم يضرب كفا على كف ويقول: «جرى إيه يا جدعان هما عاوزين يفتحوا مدارس للصبر ولا إيه؟»، ثم يضيف: «الصبر طيب ولو كان مر نرضى بيه»، وعارض محمد طه كل من سبقوه من الشعراء والمطربين بهذا الموال الجديد: «يا معلم الصبر أنا اللى الصبر علمنى / وسهر الليالى ومَشىْ الناس علمنى/ ونزلت بحر الغرام والحب علمنى / ودقت طعم الفراق والهجر علمنى»، ويضطر إلى أن ينسج مواله الجديد على الموال القديم، فيستخدم فى مناجاته التين والرمان والخوخ والمشمش والبرقوق، فيقول: «ياتين تينا فى بحر العشق ما درينا / يا رمان رمانا الهوى والحلو ما جا لينا».
يختتم «البندارى» هذه السباحة فى بحر «موال الصبر» بقوله: «ترك الكحلاوى معركة الصبر بين شفيق جلال ومحمد طه، وراح يتغنى بملحمة الرسول التى كتبها الشاعر عبدالفتاح مصطفى، واشترك فيها بترتيل آيات القرآن الكريم المثل محمد الطوخى».