على مدار عقود ومنذ نهاية الحرب الباردة لم يشهد العالم أزمة متعددة الأطراف مثلما يشهد الآن، فى ظل الحرب الروسية الأوكرانية التى تتسع وتلقى بظلالها على كل شؤون الحياة، خاصة الاقتصاد، الحرب ليست هى التى تدور على الجبهة الروسية الأوكرانية، لكنها تدور على جبهات الطاقة والأسواق على العالم كله وأوروبا، من دون آفاق أو سيناريوهات يمكن من خلالها توقع نهاية، وهى حرب تفرض ظلالها الثقيلة، وتبدو فى صورة غير مسبوقة، والمعارك على الجبهة أقل حدة فى تداعياتها من الحرب على الاقتصاد والطاقة والأسعار.
فى أوروبا تتسع دوائر الأزمة، لتطول المجتمعات، لأنها تتعلق بعصب الحياة والاقتصاد، فقد بدأت الاحتجاجات تجتاح أوروبا بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة والتضخم، ومطالب بإعادة النظر فى استيراد الغاز الروسى ورفع العقوبات عن موسكو، بعد ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الخام 40.8 %، وتستمر معدلات التضخم المرتفعة فى منطقة اليورو لتسجل نسبة قياسية بلغت 10 %، وهو ما أدى إلى خروج العديد من الاحتجاجات ضد ارتفاع مستوى المعيشة والتضخم، بالطبع فإن الحكومات تجد نفسها أمام المحتجين، وفى مواجهة موسكو، التزاما بقرارات العقوبات، التى يصعب توقع انتهائها قريبا، لكنها بالطبع تجد رفضا من مواطنى أوروبا الذين يجدون أنفسهم يدفعون الثمن فى صراع لا يرون أنهم أطراف فيه.
الجديد فى الاحتجاجات أنها تطالب بألا تدفع أوروبا ثمن الصراع، وحسب صحيفة «لابانجورديا» الإسبانية، فإن دولا مثل فرنسا وألمانيا والتشيك وإيطاليا، شهدت مظاهرات تطالب بإلغاء الإجراءات التقييدية الأحادية ضد روسيا واستيراد النفط والغاز الروسى الأرخص ثمنا مرة أخرى، وأعربوا عن غضبهم مما أسموه «ديكتاتورية» الاتحاد الأوروبى، ضد استقلالية كل دولة فى اتخاذ الإجراءات التى تحمى المواطنين، خاصة بعد أن وافق الاتحاد الأوروبى على حزمة جديدة من العقوبات ضد موسكو فى السادس من أكتوبر، فى العاصمة الألمانية برلين، طالب المشاركون برفع العقوبات ضد روسيا واستيراد موارد طاقة أرخص من ذلك البلد، ورفعوا لافتات «كل من يسكت اليوم يتجمد غدا»، وفى باريس قال المتظاهرون إن «ماكرون يمد أوكرانيا بالأسلحة لحرب لا تهمنا.. ليس لدينا الآن غاز، ولا كهرباء لإدارة أعمالنا، ولا تدفئة فى منازلنا، الاحتجاجات أيضا فى إيطاليا والنمسا والتشيك، وكل مكان، والضغوط على الحكومات، لترفع العقوبات عن روسيا، والحكومات تسعى لاتخاذ إجراءات الترشيد والمواجهة.
فى بريطانيا، أصبح الوضع الاقتصادى بالغ الخطورة، خاصة بعد ظهور طوابير طويلة من المواطنين على الأرصفة فى شوارع المملكة المتحدة، وذلك للحصول على طعام مجانى، وبدأ عدد متزايد من المدن الأوروبية فى خفض الأنوار من أجل تقليل استهلاك الكهرباء، لمواجهة نقص الطاقة، وأعلنت السلطات الفرنسية اتخاذ إجراءات لتوفير الطاقة وخطط لإطفاء الأنوار، ومنها إطفاء أنوار برج إيفل، قبل أكثر من ساعة من الموعد المحدد لها، وتعتزم المتاجر الموجودة فى شارع الشانزليزيه إطفاء لافتاتها المضيئة بين الساعة العاشرة مساء والساعة السابعة صباحا، وأيضا المتاحف، وفى ألمانيا قررت بعض المدن الألمانية عدم إضاءة المعالم العامة توفيرا للكهرباء، كما يبحث مجلس الشيوخ فى برلين إطفاء الأنوار فى المناطق السياحية المركزية، وذلك توفيرا للطاقة، أما فى إسبانيا فقد وضعت السلطات الإسبانية حدا لإضاءة المبانى العامة ونوافذ المتاجر بعد الساعة العاشرة مساء، لتكون أوروبا على موعد مع شتاء قارس هذا العام مقارنة بالأعوام الماضية.
وتوقعت نائبة رئيس وزراء إسبانيا، ناديا كالفينو، حدوث اضطرابات اجتماعية فى بلدان أوروبية، ردا على ارتفاع معدلات التضخم وزيادة وتيرة أزمة الطاقة وقالت «نتأثر بالحرب القائمة على أبواب أوروبا، على أعتاب بلادنا، وكذلك بابتزاز الطاقة، لكن درجة التأثر تختلف اختلافا كبيرا بين الدول المختلفة، بعض الاقتصادات، مثل الاقتصاد الألمانى، ودول البلطيق، وأيضا تلك المجاورة لأوكرانيا هى الأكثر تضررا بشكل مباشر».
وكل من يتابع الصراع يجد نفسه أمام واقع تصعب قراءته وإن كان الشتاء المقبل يحمل بعض الإجابات حول مدى قدرة أوروبا على التمسك بمواقفها، بمواجهة موسكو، التى تسعى لفرض موقف أكثر جذرية.