توفى أمير الشعراء أحمد شوقى فى الساعة الثانية بعد منتصف ليلة الجمعة، 14 أكتوبر1932، فعمت الأحزان التى يلخصها الكاتب طاهر الطناحى فى كتابه «الساعات الأخيرة» قائلا: «فى صبيحة يوم 14 أكتوبر 1932 طوى مصر وسائر الأقطار العربية نبأ فزعت فيه دولة الأدب بآمالها إلى الكذب، لأنه كان نبأ مفاجئا، ولأنها كانت تتمنى لشوقى حياة طويلة، ولها من نبوغه ثروة جديدة».
أخذ التعبير عن الحزن لفقد شوقى أشكالا مختلفة، ما بين قصائد رثاء، وحفلات تأبين، وكتابة المقالات، لكن سيدة الغناء العربى أم كلثوم اعتزمت تكريمه بغناء قصيدته «سلوا كؤوس الطلا» التى ارتبطت معها بذكرى خاصة معه ظلت محفورة فى ذاكرتها.
يذكر الكاتب والناقد رجاء النقاش فى كتابه «لغز أم كلثوم» وقائع حوار أجراه معها يوم 30 أكتوبر 1966، وفيه تظهر ثقافتها وتذوقها الرفيع للشعر العربى، بالرغم من أنها لم تحصل على أى شهادة دراسية، قالت له: «قرأت مختارات الشعر القديم مثل ديوان الحماسة لأبى تمام، كما قرأت كل كتاب الأغانى للأصفهانى، وكل هذه القراءات كان للشاعر أحمد رامى فضل كبير فيها، ولذلك فأنا اعتبره صديقى وأستاذى معا».
سألها «النقاش»: «من هم الشعراء الذين تفضلينهم على غيرهم؟..أجابت: أقرب الشعراء القدماء إلى قلبى مهيار الديلمى، والشريف الرضى. إنهما شاعران من مدرسة فنية واحدة هى مدرسة الرقة والأناقة والهمس فى الشعر العربى، الشريف هو صاحب هذا البيت الجميل: «وتلفتت عينى فمذ خفيت/ عنى الطلول تلفت القلب»، وهو أيضا صاحب بيت «خطبتنى الدنيا فقلت لها ارجعى/ أنى أراك كثيرة الأزواج»، أما مهيار فهو صاحب هذا البيت الجميل: «ملكت نفسى مذ ملكت طمعى /اليأس حر والرجاء عبد»، أما بالنسبة للعصر الحديث فشوقى هو عندى شاعر الشعراء، وجمع أعظم ما فى الشعر العربى كله من خصائص فنية أصيلة».
يذكر الكاتب والناقد والمؤرخ الفنى كمال النجمى، فى كتابه «تراث الغناء العربى.. بين الموصلى وزرياب وأم كلثوم وعبدالوهاب»: «كان لا بد من لقاء صوت أم كلثوم بقصائد شوقى، لأن أكبر مطربة فى عصر شوقى وبعد عصره لا ينبغى أن تمر بقصائده دون أن تعيرها التفاتا، وكان شوقى هو المبادر إلى أم كلثوم حين كتب فيها قصيدته الوجدانية البارعة «سلوا كؤوس الطلا»، فكانت أول قصيدة من شعره حفظتها أم كلثوم سنة 1931، ومضت سنوات قبل أن تغنيها».
يؤكد النجمى: «غنت أم كلثوم خلال ستين عاما ثلاثمائة أغنية، منها ستون قصيدة، من بينها تسع قصائد لشوقى»، فأين موقع «سلوا كؤوس الطلا بين هذه القصائد؟.. وما هى خصوصيتها فى حياة أم كلثوم؟.. يذكر الناقد والمؤرخ الفنى السورى صميم الشريف، فى كتابه «السنباطى وجيل العمالقة» نقلا عن حديث نادر أجراه السنباطى للتليفزيون الكويتى، أن السنباطى غنى لشوقى «مقادير من جفنيك» قبل أن يغنيها محمد عبدالوهاب». يضيف: «سأله أحمد شوقى عن معنى إحدى الكلمات فى القصيدة، فلم يعرف، وعندها قال له شوقى: إياك أن تلحن أى كلمة دون أن تعرف معناها»، يؤكد السنباطى: «عملت بهذه النصيحة منذ ذلك التاريخ، فلم ألحن كلاما أو شعرا إلا إذا استوثقت من المعنى تماما».
يروى السنباطى خصوصية قصيدة «سلوا كؤوس الطلا» فى هذه المسيرة، ينقل صميم الشريف عنه ما ذكره فى إحدى المقابلات الإذاعية: «هى قصيدة صعبة جدا، تفرغت لها تماما، ولها قصة، وهى أن أم كلثوم كانت فى قصر أحد الباشوات فى ليلة ساهرة فيها أصدقاء هذا الباشا، وكان الشاعر العظيم أحمد شوقى ضمن الحاضرين، وتقدم منها أحد الباشوات وقدم لها كأسا من الويسكى وصمم على أن تشربه، وبما أن أم كلثوم لا تقارع الخمر، فقد وضعت الكأس على فمها ولم تمس الخمر بشفتيها».
يتابع السنباطى، بأن أمير الشعراء أعجب بتصرف أم كلثوم، وفى اليوم التالى، تلقت رسالة منه عبارة عن لفافة فيها القصيدة، فاحتفظت بها، وعندما نعى الناعى أحمد شوقى، تأثرت، ولا أدرى ما الذى جعلها تتصل بى فى ذاك اليوم الحزين، 14 أكتوبر، مثل هذا اليوم، 1932، لتطلب منى الحضور فورا، وكانت تقيم يومذاك فى شقة بعمارة بهلر بالزمالك، وفور وصولى، قدمت لى رسالة شوقى وقالت: اقرأها، فقرأتها، وكانت تضم قصيدة «سلوا كؤوس الطلا» التى تروى الحادثة إياها: «سلوا كؤوس الطلا هل لامست فاها/ واستخبروا الراح هل مست ثناياها/ بانت على الروض تسقينى بصافية/ لا للسلاف ولا للورد رياها / ما ضرُ لو جعلت كأسى حراشفها/ ولو سقتنى بصاف من حمياها».
يذكر السنباطى: «قلت لها: قصيدة رائعة، فروت لى الحادثة والدموع تترقرق فى عينيها، لأعيش الشعر الذى نظمه شوقى فيها، ثم طلبت إلى تلحينها»، يؤكد صميم الشريف: «استغرق تلحين هذه القصيدة زمنا طويلا، استلمها السنباطى عام 1932 ولم ينه تلحينها إلا بعد سنوات».