كانت الساعة السادسة من صباح 21 أكتوبر، مثل هذا اليوم، 1798، حين احتشدت الجموع فى عدة أحياء بالقاهرة، وعلت أصوات السخط والاستياء، وأخذ الناقمون يعددون أسباب سخطهم من الاحتلال الفرنسى، الذى لم يكن مضى سوى شهور قليلة على قدومه فى حملة بقيادة نابليون بونابرت، وفقا لما يذكره عبدالرحمن الرافعى، فى الجزء الأول من موسوعته «تاريخ الحركة القومية، وتطور نظام الحكم فى مصر».
ينقل «الرافعى» وقائع أيام ثورة القاهرة الأولى ضد الاحتلال الفرنسى والتى بدأت يوم 21 أكتوبر، نقلا عن «يوميات وقائع الحملة الفرنسية» التى دونها الكولونيل «ديتروا» أحد ضباط الحملة، قائلا: «صاح المؤذنون على مآذنهم ينادون نداءات مثيرة للخواطر، وانثال الناس مسلحين بالبنادق والعصى يقصدون الاجتماع فى صعيد واحد، ثم أقفلت الدكاكين، وفى نحو الساعة الثامنة صباحا علمت الجنود الفرنسية بهذا الشر فتأهبت للقتال، وكان القائد العام نابليون بونابرت مطمئنا لموقفه، فركب جواده وصحبه من القواد كافاريلى، ودومارتان، وكنت معهم، وذهبنا نتفقد استحكامات مصر القديمة وجزيرة الروضة، وفى نحو الساعة العاشرة جاءه الخبر أن القتال قد بدأ فى المدينة، وأن أناسا قتلوا من الفريقين وأن الجنرال ديبوى، قومندان القاهرة، ضمن القتلى صرعه الثائرون برمية سهم نفذت إلى ثديه، وكان فى كتيبة من الفرسان ذهب القتل بكثير منهم».
يضيف «ديتروا»: «رجعنا إلى المدينة ولما دخلنا من جهة مصر القديمة أمطرنا الثائرون مطرا من الحجارة، فعدنا أدراجنا وقصدنا باب بولاق، ودخلنا منه فرأينا المدينة فى أفظع حالة، سمعنا طلقات البنادق فى كل مكان، فرأينا الجثث ملقاة على الأرض هنا وهناك، وسرايا (دوريات) الجنود يهاجمها الثائرون فى كل جهة، فيضطر الجنود غالبا إلى التقهقر راجعين إلى مواقفهم الاحتياطية، وفى حى الفرنسيين نفسه قريبا من المعسكر العام بينما كنت على رأس جماعة من حرس القائد العام هاجمنى 150 من الثائرين، ولم أستطع إنقاذ حياتى إلا بعد أن قتلت من تفرست أنه رئيسهم وفتحت ثغرة فى صفوفهم».
يؤكد أن المعسكر العام للثائرين كان الجامع الكبير المسمى بالأزهر، ذلك المسجد الجميل الذى طارت شهرته فى أنحاء المشرق، وأقام الثائرون المتاريس على منافذ الشوارع المفضية إليه، فأصبح من المستحيل أن تقتحمه المدفعية أو الجنود المشاة، يضيف: «أدرك القائد العام خطر الحالة واستفحال الثورة وإقبالها بوجهها المرعب المخيف، وأغضبه انتصار الثائرين على عدد كبير من الجنود وهجومهم على دار فرقة الهندسة، ونهبهم أدواتها، ثم بخاصة قتلهم الجنرال ديبوى، فأمر الجنرال دومارتان قومندان المدفعية أن ينصب المدافع على رُبى المقطم إلى شرقى القلعة لتعاون مدافع القلعة فى إطلاق القنابل على الجامع الأزهر».
يذكر «الرافعى»، أن القاهرة كانت فى هذا اليوم فى حالة لم يألفها الناس من قبل، فكان الناس يتألبون فى الشوارع زرافات، يشكون ويتهددون ويخطب بعضهم من المعممين فى هذه الجموع فيشعلون نار الحماسة فى قلوبهم، فتقابلهم الجماهير بالتأييد والتحبيذ، وكان الناس يتلاقون على غير تعارف، فيتبادلون الشكوى ويتعاهدون على المقاومة، وأخذت سمات الغضب تبدو على الشعب الهادئ الوديع، وظهرت الأسلحة فى أيدى المتجمهرين فى الشوارع والميادين بعدما كانت محجوبة عن الأنظار، وأقبل الفلاحون وأهل الضواحى إلى القاهرة، فاشتركوا فى هذا التجمهر، وأخذت صيحات السخط واللعنات تنصب على الضرائب الجديدة وعلى الفرنسيين.
ينقل «الرافعى» عن «الجبرتى»، أسباب الثورة، مؤكدا أن الفرنسيين ارتكبوا كثيرا من المظالم، ويضيف: «طلبوا الخيول والجمال والأبقار والثيران والسلاح، وكانوا يفتشون المنازل ويكسرون الدكاكين بسوق السلاح وغيره، ويأخذون ما يجدون فيها من الأسلحة، وفى كل يوم ينقلون على الجمال والحمير من الأمتعة والفرش والصناديق والسروج وغير ذلك ما لا يحصى، ويستخرجون الخبايا والودائع، ويطلبون البنائين والمهندسين والخدام الذين يعرفون بيوت أسيادهم ليدلوهم على أماكن الخبايا ومواضع الدفائن، وطلبوا أهل الحرف من التجار بالأسواق، وفرضوا عليهم نقودا على سبيل القرض والسلفة مبلغا يعجزون عنه، وحددوا لدفعها أجلا مقداره ستون يوما، فضجوا واستغاثوا وذهبوا إلى الجامع الأزهر، والمشهد الحسينى وتشفعوا بالمشايخ (أعضاء الديوان) فتكلموا لهم فأنزلوها إلى نصف المطلوب ووسعوا لهم فى أيام المهلة».
يذكر «الرافعى» أنه من المظالم الأخرى التى ارتكبها الفرنسيون، أنهم أمروا بهدم أبواب الحارات والدروب، وكانت هذه الأبواب تغلق فى الليل فتصير كل حارة فى مأمن من اعتداء اللصوص، فاشتد قلق الناس وهم فى صلاة الجمعة، يضيف «الرافعى»: «كل هذه الأسباب جعلت فكرة الهياج تختمر فى الأذهان، وتشكلت لجنة للثورة تديرها وتنشر دعوتها وتنظم صفوفها ومقرها فى الأزهر، وأخذ دعاة الثورة يحرضون الناس على التمرد والانتفاض على الفرنسيين».