كل متابع لتاريخ القمم العربية على مدى عقود، يعرف أن الأمة العربية لم تكن فى حال طبيعى، فقد كانت هناك دائما تحديات، وتحولات عالمية وإقليمية تفرض نفسها على العالم العربى، ولم يخل الشرق الأوسط على مدى ثلاثة أرباع القرن من مساع للتوحد أو التعاون على أسس واقعية، قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، وأثناء الحرب الباردة وما بعدها ظلت هناك تفاعلات وتحولات تفرض نفسها.
وعلى مدى عقود ظل العمل العربى المشترك حلما، والحديث عن تعاون اقتصادى وسياسى يسمح ببناء وحماية مصالح اقتصادية مستديمة، ومع هذا فإن العقدين الأخيرين شهدا تحولات درامية، وبعد غزو العراق، بدأت مرحلة جديدة أنتجت الإرهاب والتهديدات الوجودية، ضاعفتها تحولات العقد الماضى، التى أحالت الأحلام إلى كوابيس، وآمال التغيير إلى فوضى التهديد، وشهدت دول عربية مثل سوريا وليبيا واليمن، صراعا وجوديا أطاح بأحلام الشعوب وأدخل بعضها فى نفق الصراع والإرهاب والخوف.
ثم توالت أزمات عالمية انعكست إقليميا، عامان مع فيروس كورونا، تلته الحرب فى أوكرانيا وتشعباتها المعقدة عالميا والتى خلقت أزمة أكثر تعقيدا، وانعكاساتها على الاقتصاد والتضخم، والأسعار، وهو ما أعاد إلى الذاكرة تاريخ الأزمات الكبرى، وأعاد التذكير بأن العالم العربى يوحده اللغة والمصير، ويمتلك ثروات وإمكانات متنوعة، ويواجه تحديات وجودية على المستويين المحلى والإقليمى.
وسط كل هذا تأتى القمة العربية الحادية والثلاثون فى الجزائر، وسط تحولات درامية واستمرار معاناة بعض الدول العربية من تداعيات صراعات داخلية، معقدة مستمرة طوال أكثر من عقد، وهو ما يمثل تحديات أمنية من جهة، وتأثيراتها الاقتصادية من جهة أخرى، حيث إن هذه الخسائر التى تنتجها الصراعات تنعكس فى صورة لاجئين أو نزيف اقتصادى يؤثر على الاقتصاد العربى.
القمة تأتى بعد تأخر لثلاث سنوات، فى ظل أوضاع معقدة تضاف إلى هموم مزمنة، وأسئلة عن قدرة الدول العربية على أن تتوافق بشكل ما على حد معقول من التفاهم للبدء فى معالجات للأزمات، ودفع واقعى للمسارات السياسية فى سوريا واليمن وليبيا، لإخراجها من النفق، ونفس الأمر فيما يتعلق بلبنان وكيفية توجيه دعم عربى لمساندة البلد الشقيق المأزوم.
كل هذه القضايا فرضت نفسها على كلمات الزعماء العرب، وسط إدراك واضح لحجم التحديات، والرغبة فى تجاوزها والخروج إلى حل، وهو ما اتضح فى كلمة الرئيس عبدالفتاح السيسى، أمام القمة، حيث أكد «أن تسوية الأزمات العربية، والتعاطى مع التحديات الدولية، ينطلق أساسا من إيماننا بوحدة أهدافنا ومصيرنا، وتفعيلا لتعاوننا وإمكاناتنا وأدواتنا فى مسائل الأمن الجماعى، بالتوازى مع جهودنا فى التكامل على المسارات الأخرى»، وقدم الرئيس تشخيصا لما يواجهه الأمن القومى العربى «أينما نولى أنظارنا نجد أن الأخطار التى تداهم دولنا واحدة، وترتبط فى مجملها بتهديد مفهوم الدولة الوطنية، وتدخل قوى إقليمية أجنبية فى شؤون المنطقة من خلال تغذية النزاعات، وصولا إلى الاعتداء العسكرى المباشر على بعض الدول العربية، وكلها عوامل أفضت إلى طول أمد الأزمات دون حل، فى زمن تشتد فيه التحديات الاقتصادية والتنموية والبيئية عالميا وإقليميا، ويزيد فيه الاستقطاب الدولى الذى أصبح عنصرا ضاغطا سياسيا واقتصاديا على نحو بات يؤثر علينا جميعا».
وأشار الرئيس السيسى إلى أن تكتلات أخرى سبقت الدول العربية نحو التكامل، رغم أن من أطرافها من عانوا من تناحر وحروب بينما لدى العرب من المشتركات «ما يحتم علينا توحيد رؤانا وتجاوز اختلافات وجهات النظر»، وهو ما يجعل هناك إمكانية لإزالة الأسباب التى تعيق تحقيق التكامل العربى وتحول دون أن تلحق أمتنا، ذات الموارد والإمكانات الهائلة، بركب الأمم الأكثر تقدما، ووجود قرار بوقف نزيف الدم العربى، وردع تدخلات القوى الخارجية، والحد من إهدار ثروات المنطقة فى غير مقاصدها الصحيحة، وبلورة تسويات نهائية للصراعات التى لن تحل بمعادلة صفرية يُقصى فيها طرف أو يُجار على حقوقه».
الرئيس استعرض التحديات الأساسية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطينى، والمسارات السياسية فى ليبيا واليمن ودعم الدولة الوطنية، بما يسهم فى حفظ السلم الاجتماعى وترسيخ ركائز الحكم الرشيد والمواطنة وحقوق الإنسان، ونبذ الطائفية والتعصب، والقضاء على التنظيمات الإرهابية، واعتبار وحدة الصف العربى خطوة أساسية على صعيد تأسيس علاقات جوار إقليمى مستقيمة تستند إلى مبادئ غير قابلة للمساومة وملزمة للجميع، «احترام استقلال وسيادة وعروبة دولنا، وتحقيق المنفعة المتبادلة، وحسن الجوار والامتناع الكامل عن التدخل فى الشؤون العربية»، الرئيس تطرق إلى كل القضايا، وقدم خارطة طريق لعمل عربى مشترك يضمن الأمن القومى والمائى والاقتصادى.