الأمة العربية ليست بحاجة إلى التنسيق والتوحد مثلما هى الآن، وعلى مدى عقود كانت هناك تحديات تفرض نفسها، وتحولات كبرى شهدها العالم وانعكست على الإقليم، وأيضا تحولات إقليمية فرضت نفسها على ما يجرى، لكن الواقع الآن أكثر وضوحا، والتغيرات والتحولات وجودية، وبالطبع هناك تنوع فى الرؤى والتوجهات لدى كل دولة، ومصالح وتشابكات، وهى أمور كانت ولا تزال قائمة.
وبالرغم من وجود تحولات كمية على مدى خمسة عقود، فإن هذه التغيرات أثمرت فى شكل ومضمون جديد للعالم، تتشكل فيه المصالح، وتسعى القوى الكبرى لإعادة صياغة موازين القوة والنفوذ سياسيا واقتصاديا، وبشكل سوف ينتج المزيد من التغيير، يتجاوز ما هو جار الآن. فقد غيرت هجمة فيروس كورونا من شكل العالم بسرعة، ووضعت القوى كلها أمام تحد جديد غير مسبوق، ثم أتت الحرب الروسية الأوكرانية لتشير من جديد إلى أن العالم الذى ظهر بعد الحرب العالمية الثانية لا يزال يتشكل ويصنع تفاعلاته، فلم يكن هناك إدراك لخطورة منطقة الصراع بين روسيا وأوكرانيا، ومدى ما تحمله هذه المنطقة الصغيرة من تأثير على أسواق الطاقة والغذاء، وحجم الاعتماد الأوروبى على مصادر الطاقة والغذاء والمواد الخام فى مجال الصراع، ثم إن الصراع استقطب الاهتمام الأكبر من المنظمات الدولية والدول الكبرى، بشكل يجعل هناك ضرورة لأن تلتفت الدول المختلفة لأهمية بناء تحالفات يمكنها الصمود فى عالم معقد ومتشابك.
فى الشرق الأوسط والإقليم العربى، لم تتوقف التفاعلات طوال العقود، لكنها الآن تبدو فى مجال متعدد ومتشابك، يتأثر بالعالم أكثر مما يستطيع التأثير فيه، وبقى العالم العربى فى حالة رد الفعل، وحتى عندما بدأ التفكير فى أن يكون صاحب تأثير فى أسواق الطاقة، واجه مخاوف ومحاولات اعتراض.
نظريا، فإن الدائرة العربية والأفريقية تمتلك أغلب ثروات العالم من الخامات والبشر، ومع هذا فإنها لا تمتلك القدرة على الفعل والتأثير، وتبقى فى مجال التأثر، فى كل المجالات، بينما لديها الفرصة لبناء تحالفات اقتصادية وسياسية يمكنها الصمود فى عالم صعب، وبالطبع فإن كل دولة عربية لديها طموحات فى التقدم والتنمية، داخليا وأيضا استغلال الفرص المتاحة إقليميا أو دوليا، ثم إن هذه الدول تتأثر بالتحولات الجارية فى دول الجوار، أو دول المنطقة التى تعيش اضطرابات أو تهديدات وجودية.
لأن الصراع فى ليبيا أو سوريا أو اليمن، أو الاضطرابات فى العراق، والاختلال فى لبنان، كله ينعكس على الدول العربية كافة، بدرجات متفاوتة، فهو يضيع ثروات وينتج لاجئين، ويوقف فرص الاستثمار والتنمية، وبالتالى له تأثيرات إقليمية، ثم إن تجربة الصراعات التى واجهتها دول مثل ليبيا وسوريا واليمن، تنتج المزيد من التداعيات الخطرة، والتهديد والإرهاب ويفتح الباب للتدخلات الخارجية من كل اتجاه، ومهما طال الاحتراب الداخلى فسوف ينتهى بجلوس كل الأطراف للتفاوض، بعد أن تكون الدولة فقدت وجودها، وكما قال الرئيس السيسى فإن «الصراعات لن تحل بمعادلة صفرية ينتصر فيها طرف أو ينهزم آخر»، وبالتالى الأفضل هو دعم الدولة الوطنية ووجود قدرة جماعية على مواجهة الأزمات استناداً على أسس واضحة تقوم على تكريس مفهوم الوطن العربى الجامع من ناحية، والدولة الوطنية ودعم دور مؤسساتها الدستورية من ناحية أخرى».
وربما لهذا بدا خطاب أغلب الزعماء العرب منطلقا من واقعية، ونضوج نحو ضرورة إنهاء الخلافات الداخلية داخل بعض الدول العربية حتى تتمكن من مد جسور التعاون وإبعاد التدخلات الخارجية، فى عالم ليس لديه الوقت للتدخل فى قضايانا، باستثناء التدخلات الضارة، واستمرار الصراع.
ربما لهذا أيضا جاءت التوصيات من القمة بناء على هذه الرؤية، وبجانب مساندة الشعب الفلسطينى، والتمسك بمبادرة السلام العربية لعام 2002، مع دعم توحيد الصف الفلسطينى، تأتى قرارات مساندة الدول العربية التى تواجه اضطرابات ومعاناة، وتعزيز العمل العربى المشترك لحماية الأمن القومى بمفهومه الشامل، كمقدمة لإبعاد التدخلات الخارجية، وإنهاء الأزمة الليبية بما يحفظ الوحدة ويصون أمنها وأمن جوارها، ودعم الحكومة الشرعية اليمنية، ودور جماعى للتوصل إلى حل سياسى للأزمة السورية، ودعم تجربة العراق، والتضامن مع لبنان، لحفظ أمنه، ودعم الصومال.
كل هذه التوصيات وغيرها، بالرغم من بداهتها، لكنها تتطلب المزيد من العمل الجماعى العربى، من منطلق الفعل، وليس رد الفعل، ودون انتظار لأى خطوات غير عربية، هذا الطموح للخروج العربى من المعادلة صفر، هو الطريق لاستعادة فرص ضاعت على مدى عقود.