بعث فرديناند ديلسيبس من باريس برسالة إلى صديقه سعيد باشا، يوم 15 سبتمبر سنة 1854، يهنئه فيها على توليه عرش مصر خلفا لابن شقيقه عباس باشا الذى اغتيل فى قصرة بمدينة بنها يوم 13 يوليو 1854، وكانت تلك الرسالة الخطوة الأولى فى طريق حفر قناة السويس، وفقًا لما يذكره الدكتور مصطفى الحفناوى فى الجزء الأول من كتابه «قناة السويس ومشكلاتها المعاصرة».
يؤكد «الحفناوى»، أن سعيد باشا لم يضع وقتا وحدد لفرديناند أول نوفمبر، ليجتمع به فى الإسكندرية، ويكشف أن الصداقة بينهما كانت قديمة وتعود إلى زمن محمد على باشا، ففى أوائل 1832 عينت الحكومة الفرنسية «فرديناند» نائب قنصل بمدينة الإسكندرية، وظفر بعطف محمد على الذى كان صديقا لفرنسا، ويستقدم منها الخبراء والعلماء والمتخصصين فى مختلف العلوم والفنون والآداب.
يضيف الحفناوى: «طابت لفرديناند الإقامة فى مصر فأغرم بركوب الجياد العربية، وبرز فى ذلك حتى صار يدربها على العدو والسباق، ولاذ به مواطنوه من رعايا فرنسا المقيمين بالقاهرة والإسكندرية، وكانوا فى حياتهم الخاصة مؤتلفين بحيث كانوا أشبه بأعضاء أسرة واحدة، فتجمعهم الموائد والسهرات، وكان فرديناند بمثابة الروح فى تلك المجتمعات الفرنسية لأنه كان جذابا ومحدثا فذا وراقصا لا يمل المراقصة وذا مظهر أنيق».
كان سعيد باشا عمره عشر سنوات «مواليد 17 مارس 1822» حين جاء «فرديناند» نائبا للقنصل فى الإسكندرية، وكان عمره 27 عاما «مواليد 19 نوفمبر 1805».. ويذكر إلياس الأيوبى فى الجزء الأول من كتابه «تاريخ مصر فى عهد إسماعيل»: «لما شب سعيد، عهد محمد على إلى فرديناند» بأمر الاعتناء بصباه»، مضيفا: «علم الأمير اليافع ركوب الجياد، وحبب إليه إجهاد النفس فى التمارين الرياضية، وكان «سعيد» فى أشد الاحتياج إليها لأنه كان عظيم الجثة، بدينا إلى حد أن أباه حتم عليه حضور أربعة عشر درسا فى اليوم، والإكثار من الرياضة الجسيمة لتذهب عنه بدانته، وأنه كان يزنه كل أسبوع، فإذا وجده زائدًا على ما كان فى الأسبوع السابق، عاقبه عقابا صارما، فإذا وجده ناقصا كافأه».. يؤكد «الأيوبى» أنه نتج عن هذا الاعتناء، أن الأمير الشاب صادقه مصادقة أكيدة، وكان الباشا العظيم أبوه من أكبر مشجعيه عليها.
استدعى «فرديناند» كل هذا الماضى حين قرأ وهو فى باريس خبر وفاة «عباس باشا»، ويصف الحفناوى حالته: «رأى ليلة القدر فى وضح النهار»، وكتب رسالته إلى صديقه القديم، فرد عليه بأن يحضر، ويؤكد الحفناوى: «فى 7 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1854، وصل فرديناند إلى الإسكندرية، وفى جيبه مذكرة أعدها ليرفعها إلى سعيد باشا، واحتفظ بها فى جيبه حتى تأتى الفرصة التى تسمح بتقديمها فى ساعة يكون فيها الوالى منشرح الصدر، مطمئن البال».
كانت المذكرة عن مشروع حفر قناة السويس، ويؤكد «الحفناوى» أن حرص «فرديناند» على البحث عن اللحظة المناسبة لتقديمها، يعود إلى أنه كان يعرف أن «سعيد» متأثر بآراء والده محمد على بتجنب هذا المشروع ليدرأ عن مصر متاعب كثيرة، وأنه يسير على سنة أبيه»، غير أن طريقة استقباله فى الإسكندرية هزته، يصفها «الحفناوى»، قائلا: «نقلته من الميناء عربة خديوية ذات خيول مطهمة، يجرى أمامها السايس والقواس إلى دار الضيافة التى أعدها له الوالى.. وبدأ الثعلب الفرنسى الماكر منذ اللحظة الأولى يتجسس ويسأل الخدم ورجال الحاشية، ومن صادفهم من الخلان، عن مزاج سعيد وعاداته وما صارت إليه طباعه، وكيف يمكن التأثير عليه، ومن هم أصحاب الحظوة عنده، وهكذا من المقدمات الضرورية لتنفيذ خطة أراد إحكامها».
بعد وصوله بساعات استقبله سعيد باشا فى قصره بالقبارى.. يؤكد الحفناوى: «لبس فرديناند الحلة الرسمية، ووضع نياشينه فوق صدره، وحرص على أن يعطى هذه المقابلة المظهر الرسمى، وأراد بذلك أن يداعب كبرياء الوالى ويصل إلى قلبه.. كان «سعيد» وقتئذ فى عنفوان شبابه، فى الثانية والثلاثين من عمره وله ثقافة أوروبية ولسان ينطق الفرنسية بفصاحة تلفت الأنظار، ومع ذلك كان يفرض رأيه ويبغض الجدل والمناقشة».
يؤكد الحفناوى: «بدأ فرديناند يعمل فى حذر كمن يمشى على خيط العنكبوت فيستهوى إليه قبل مفاتحة الرجال الذين عرف أنهم لهم حظوة لدى سعيد باشا، ويصل إلى قلب كل واحد من أفراد الحاشية بطريقة خاصة، وأسلوب يجعلهم يتعلقون بشخصه، وهو مخادع لا يبارى ولا يمارى.. وكتم مشروعه عن أقرب المقربين إليه حتى عن قنصل فرنسا وقتئذ واسمه «ساباتيه»، ولم يصارح غير اثنين من خلصائه وهما القنصل الهولاندى «رويزنير»، وصديقه «جيريت»، واجتمع الثلاثة ذات مساء يتذاكرون فى الموضوع، فاستقر رأيهم على أن الفرصة غير مواتية»، غير أن الحال تبدل يوم 15 نوفمبر سنة 1854.